إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

السبت، 22 نوفمبر 2025

 الأستاذ اللواء/

أحمد إدريس...

أحاديث الزمان والإنسان (2)

"بُنَّارْتِيْ" جزيرة التاريخ والعراقة البشرية...

   جزيرة "بُنَّارتِي" واحدة من حواضنِ الأصلِ السودانيِ التي يسقي عروقَها النيلُ ليلَ نهارٍ - فهي واحدةٌ من إحدى عشَرَة جزيرةٍ هي جُزُر "دُنْقُلا" الكبرى - فتتجددُ الأصالةُ فيها بمزيجِ الحضاراتِ ونافعِ التراثِ وتعارفِ البشرِ شعوباً وقبائلَ، فتنْفَحُ أرجاءَ الوطن من عذقها الممزوج، وتمدُّهُ من مكنونِ بَنِيْهَا وتحفظُ في جوف النيل تراثه وحضارته. ذلك شأن الكثير من الجزر التي  أسرجتْ ظهرَ النيل في شمال السودان، وسطَعَتْ بينهن "بُنَّارتِي" بتاريخٍ له من أصالةِ النوبةِ كما له من عراقةِ العروبةِ، وبمجدٍ من تديُّنِ أهلِها.

نشأتْ جزيرة "بُنَّارتِي" وتجذَّرت بين أحضان النيل تحدُّها من جهة الشرق بفاصلٍ من النيل مدينةُ "أَرْقُوْ" و"الْبُرْقِيْقْ"، وتناظِرُها في النيل من جهتي الشرق جزيرةُ "مَرَوَارتِي" و"أَرْتِقَاشَةْ"، أما من الغرب فهي تمتدُّ داخل النيل في مواجهةٍ بطولِ المسافة التي تبدأ بقرية "كُرْبَهْ" و"كُوَّيَةْ" و"دَمْبُوْ" و"بِرْكِيَّةْ" و"مَشُّوْ". فهيَ الشاهدُ على العصور التي أكلتْ تاريخَ هذه النواحي جميعِها، تراقبُ حركةَ الزمان فيما حولَهَا مِن حيثُ مربَضِها على النيل، فهيَ التاريخُ والحضارةُ والإدارةُ والتراث، وإليها تُنسبُ "العُمُوْدِيَّةُ"، "عُمُوْدِيَّةُ بُنَّارتِي" التي تضمُ ما سلف ذكره من قرى غرب النيل  

للجزيرة إضافةً إلى "حفير مَشُّوْ" و"وادي القَعَبْ".

اختلفت الألسن في نطق اسمها – وهو أمرٌ مألوفٌ مع كثيرٍ من الأسماء التي تثقل على اللسان النوبي، فالاسم: "سيِّد" مثلاً ينطقونه "ساتِّي"، و"شيخ علي" ينطقونه: "شهلي" وغير ذلك - فهل اسمها "بُنَّارْتِيْ" – كما عهدها الأولون والذي أميل إليه وأدعي أنه الاسم الأصل لهذه الجزيرة حسبما سمعته من بعض معمري جزيرة "مقاصر". 

أم هو "بُلَّنَارْتِيْ" كما شاعت في الآخِرين؟ وفي  ذلك تتجه التفسيرات إلى أمرين؛ أنها "بنارتي" من مزيج الثقافة العربية والعراقة النوبية، فالبُنُّ - كما هو معروف - رمزٌ لكرم الضيافة العربي في العصور المتأخرة. وقد 

محمد وردي

 عَهِدَ أهلُ
 الجزيرة هذه العادة من موروثات الثقافة العربية، التي تغنى بها الفنان النوبي الأشهر محمد وردي إذ يقول:(عرباً نحنُ حملْنَاها وَنُوْبَةْ).

   أما خاتمة الاسم "نارتي" فهي كلمة نوبيةٌ تعني "جزيرة"، فيكون بذلك معنى الاسم "بنارتي" أي: جزيرة البن. ومن مؤيدات هذا الاتجاه في التفسير ما هو معلومٌ من نزولِ رهطٍ من "أشراف" أهل الحجاز ومن بقية السيد/ أحمد بن إدريس قديماً هذه الجزيرةَ وامتزاجِهِم تصاهُرَاً بأهلِها، واليَمنُ كما هو معروفٌ من مَواطن "البنِّ" في بلاد العالم، ومن المعلوم أن أصول أهل "بنارتي" تعود إلى إخوةٍ وفدوا إلى هذه المنطقة من الحجاز كما سيرد. وقد يعزز هذا الاتجاه كذلك وجود اسم "اليماني" في بعض أفراد أسر "بنارتي"، وأشهر من حمل هذا الاسم المرحوم/ أحمد سيد صالح اليماني الذي استقر بمدينة جدة قديماً لأكثر من سبعين سنة وتوفي بها، مما يفتح الباب لقبول احتمال تسمية الجزيرة باسم عوائل ذات أصل يمني سكنت الجزيرة قديماً مثل قبيلة "بَلِي" تلك البطن من "قضاعة"، أو "البلويت" سكان شرق السودان ذوي الأصول العربية، فقد قال ضرار صالح ضرار: إن كلمتي "بلويب" و"بلوييت" ارتبطتا باسم قبيلة "بَلي" العربية بعد اختلاطها بالبِجَةْ (هجرة القبائل العربية إلى وادي النيل ص 282).

وهناك تفسير آخر للاسم "بنارتي" تنتج عن ملاحظة في اللغة النوبية وهي أن "الباء" و"النون" هي جزر يعني "الأسفل" أو "المتدني"، وفي هذا جاء أسماء مثل جزيرة "بِنَّا"، والمفهوم الموروث عند أهلها أن سبب الاسم انخفاضها الملحوظ. فبذلك يعني اسم "بنارتي" الأرض السفلى، ويؤيد ذلك في تفسير اسم "بنارتي" أن أجزاء كبيرة من هذه الجزيرة قد غرقت في كثير من مواسم فيضان النيل، ففي فيضان النيل في العام 1946م أخذ النيل الشِّق الشمالي من "بنارتي" وهي بيوت أهلي "اليُوْسِفِيْ" فهاجروا إلى "أرقو الحضور" حيث كانت "أرقو" مركزاً تجارياً وإدارياً قبل أن يتحول ذلك المركز التجاري إلى "البُرْقِيْقْ"، فتراجع سوق أرقو حتى كاد ينفق، وكذلك هاجر جُلَّ أهل "أرقو" إلى الخرطوم وأم درمان.

أما الاسم "بُلَّنَارْتِي" – وهو ما شاع أخيراً وأثبتته المواقع أمثال "قوقل" ويذكره الناشطون في مواقع التواصل – فهو مركبٌ كذلك من كلمتي "بُلَّ" و"نارتي" التي تعني "جزيرة"، فما هو تفسيرهم لجزئها الأول ""بُلَّ"؟ فتذهب الاتجاهات فيه إلى أنه اسمٌ لأول قومٍ سكنوا هذه الجزيرة فعُرفوا بالـ"بُلَّرِيْ"، ولْنَدَعْ الآن معنى هذا الاسم لنذكر المؤيدات لهذا التفسير – والتي قد تعزز المذهب الأول في الاسم- فكثيرٌ من جُزُر الشمال جاء اسمها من ساكنيها أمثال: "حسين نارتي" و"حامد نارتي" و"موسى نارتي"، فنلاحظ أن بادئة الأسماء عربية الأصل وأقرب القبائل العربية لهذا الاسم قبيلة "بلي" اليمنية الأصل.

        تاريخياً يشير بعض الباحثين إلى ترابط عضوي بين مثلث رأسه في الجنوب جزيرة "بنارتي" وفي رأسه الشرق شمالي يقع "قصر الملك طمبل السابع" ملك "أرقو"، وفي شماله حي "شيخ مُنّوَّرْ" بين "أَرْقُوْ" و"الْبُرْقِيْقْ". و"شيخ مُنّوَّرْ" هو أحد أقدم أجداد أهل "بُنَّارْتِي" و"وادي حاج" و"أحمدْ تُوْدْ مَارْ في شمال أرقو. و"شيخ مُنّوَّرْ" هو أحد الأخوة الثلاثة

مركز أرقو 1822م -1823م (مقر المأمور)

 
الذين جاءوا من الحجاز وتناسل منهم غالب أهل "بنارتي" وأرقو وكرمة ومشو، وثاني الإخوة هو شيخ "زُمْرَاوِيْ" الذي قطن "كَرْمَةْ"، وثالثهم "وَدْ عِيْسَىْ" في مشو ومن ذرياته جِدُّنا لأمنا/ صالح محمد بصير. ولا ينقطع بالضرورة تاريخ هذا المثلث عن تاريخ مملكة "كوش" التي اتخذت من "الدُّفُوْفَةْ" مركزاً لها، حيث أنها لا تبعد عنه بأكثر من عشرين كيلو متراً.

        ومن الملامح الظاهرة في بنارتي ذلك التدين الذي يسم أهلها منذ تاريخ لهم قديم، فمن أعلامهم في ذلك الشأن شيخ طويل المشهور بــ"أبرابة" – و"أبرابة" تحوير نوبي لكلمة "أبو رابحة" لثقلها على اللسان النوبي- وهو الذي يُروى من ورعه أنه لم يشرب قط من غير "الجدول" الذي يسقي زراعته، وكانت زراعته في غرب النيل وسميت أرضه الزراعية هنالك بـ"فقيرْ مِتَرْ" - أي مترة الفقير، والفقير هو الشيخ – وهذه الأرض هي التي أسست عليها قرية "بركية" وهو الاسم الأقدم لها قبل اسم "بركية" فقد كانت موضع لبركة كبيرة للماء المتجمع. ومن ذرياته الشيخ هرون شيخ طويل شيخ الطريقة الأحمدية الإدريسية الذي تزوج من بنته "مريم" الشريف الإدريسي محمد بن علي بن محمد الغوث بن أحمد بن إدريس مؤسس دولة الأدارسة بمنطقة تهامة وعسير التي كانت تعرف باسم (المخلاف السليماني).
  
ومن أعلامهم في ذلك الشأن كذلك "شيخ مُنَوَّر" جدهم الأكبر، وهو خزرجي ينتمي بنسبه إلى جابر بن عبد الله الأنصاري، ولصلاحه اتخذ الناس حول مدفنه مقابر لأهلهم لما رأوه من عجيب صلاحه، فمقابر الشيخ منور تتوسط المسافة بين أرقو والبرقيق. ومن أعلام التدين كذلك أسباطه من بنته "فقرة" والتي عرفت كذلك بالصلاح والتدين، وقد حفظت القرآن الكريم، وتزوجها هرون الميرفابي تلميذ الشيخ منور وأنجب منها شيخ طويل بن هرون، الذي عرف بتحنثه في خلاء الضفة الغربية للنيل حيث لا بشر هناك، ولمَّا علم الأعراب بذلك قدموا أفواجاً حيث خلوته تلك يبركون إبلهم عنده تبرُّكاً فكانت بذلك قرية "بِرْكِيَّة" في ذلك المكان.

ومن تاريخ التدين لأهل بنارتي اتصال سيرتهم بسيرة الصالحين من الأدارسة، وقد كان ذلك بدخول السيد محمد بن علي بن محمد الغوث بن السيد أحمد بن إدريس إلى جزيرة بنارتي وتزوج بها من السيدة مريم بنت هارون الطويل وأنجب منها ابنه السيد علي سنة 1876م على الأرجح، قال العقيلي:( ولد السيد علي بن محمد بن علي الإدريسي في دنقلة من السودان 1324ه - 1905م، وأمه مريم بنت هارون الطويل، وظل في السودان عند جده لأمه ثماني سنوات وفي عام 1332ه بعث والده من وصل به مع أمه إلى "صِبْيَا" فربي في كنف والده وتعلم بها القراءة والكتابة ومختصرات الفقه واللغة. ومن شيوخه الذين قرأ عليهم محمد صالح عبد الحق ومحمد الامين الشنقيطي وعلي بن محمد السنوسي. ولم يبايع له والده في حياته بولاية العهد وإن كان من المعروف أنه الوريث الشرعي لوالده بصفته الابن الأكبر) (ص10). وعندما تولى حكم دولة الأدارسة تولى له الإمارة أخواله الدناقلة، أشهرهم الرئيس/ عبد المطلب العباسي الدنقلاوي خال السيد علي بن محمد بن علي الإدريسي (ص58) قال عنه العقيلي:(النائب الجديد عبد المطلب، وهو رجلٌ لم يسبق له المران في الإدارة ولا الاشتراك في الحروب، خالٍ من العلم والمعرفة، غريبٌ، وفد من السودان مع أخته أم الإمام علي الإدريسي) تاريخ المخلاف السليماني 2/876. وقد وصف بأنه (رجلٌ غريبٌ من بر السودان وله نُسُكٌ وعبادة فذهب شهيداً مطلول الدم) على أيدي جيش الدولة 

المتوكلية التي رأسها الإمام المتوكل على الله يحيى بن حميد (ص84). وصار عبد المطلب والياً للإمام على "الحديدة" (ص70)، حتى أجلاه عنها جيش الإمام المتوكل الذي سار حتى أجلى السيد علي بن محمد الإدريسي وخاله عبد المطلب وبعض قواده إلى مدينة "ميدي" - التي كانت تحت ولاية السيد السنوسي الإدريسي عن السيد علي بن محمد الإدريسي – ودارت المراسلات بغرض الصلح بين السيد علي بن محمد الإدريسي وبعض ولاة المتوكل الذين طلبوا منه وفداً لمحاورته فأوفد إليهم الرئيس/ عثمان بن أحمد اللفاني الدنقلاوي، (وهو رجلٌ من السودان ذو خبرة ودراية، كان قد صحب الشريف حسين بمكة في الحجاز زمناً، وأرسله سفيراً إلى الدولة الإدريسية زمن ولايته على الحجاز وبقي مع الدولة الإدريسية 76-77). وبعد أن انقلب عليه عمه السيد الحسن بن علي الإدريسي وتمت البعة له، (طلب - السيد علي بن محمد الإدريسي – السفر إلى أرض السودان بلاد العجم من البربر الأصل، فأُذن له فرحل هو وأمه وخاله محمد هارون وحاشيته بمعيته) (ص 111-112) (التوثيق من كتاب: الأدارسة في تهامة 1341-1347 القاضي عبد الله بن علي العمودي. تحقيق د. عبد الله بن محمد أبو داهش). كما تذكر المراجع أن جدة السيد محمد بن علي بن محمد بن السيد أحمد بن إدريس لأبيه سودانية، وأنه (مكث في بلدة دنقلة من أبناء أخواله، وطلب العلم هناك، وتزوج من ابنة هارون الطويل شيخ الطريقة الأحمدية فيها) (كتاب المخلاف السليماني تحت حكم الأدارسة،  ص95) (كتاب: ملوك العرب: أمين الريحاني، طبعة دار الجيل – بيروت، ج1 ص 315).

وصل السيد علي بن محمد الإدريسي وأمه وخاله إلى "بنارتي" وقضى فيها أواخر حياته هائماً في البلدة في حالة من الجذب الصوفي، يرتدي إحرامه ولربما اكتفى بالإزار منه في شدة قيظ الصيف وزمهرير الشتاء، يكثر من الكتابة على جدران المنازل أرقاماً ويرسم من مشاهد الحرب العالمية التي أزفت ما يخيل له من أشكال الطائرات وغيرها. ثم أصيب بداء السكر فاطرح مستشفى الشعب بالخرطوم. ثم طلب أبناء ابنه الأمير السيد محمد الذي توفي  مسموماً عام 1387هـ وبنات الإمام السيد علي - الشريفة فاطمة  والشريفة عابدية - طلبوا عودته إلى مكة المكرمة فجاء الأمر السامي وأمر رقم 13566 وزارة الخارجية السعودية في 7 ذو القعدة 1394 هـ بالسماح للسيد علي بالعودة. عاش بعدها مدة 3 سنوات  بمكة المكرمة وتوفي رحمه الله بجماد الأول من عام 1397 هجري بالدمام عند زيارته لابنته الشريفة فاطمة، ونُقِل ودفن بجوار عمه سيادة الإمام الحسن وإخوانه السيد الأمير عبد الوهاب والسيد الأمير عبد العزيز بمعلاة مكة المكرمة. له من الأبناء الأمير محمد(المهدي) وشريفتين، الشريفة فاطمة - زوجة السيد عبد الله بن عبد المنعم المأمون الإدريسي - والشريفة عابدية زوجة السيد حسن بن حسين أبو الحسن الإدريسي.

لم تتوقف علاقة السادة الأدارسة بـ"بنارتي" بالسيد علي الإدريسي بل عاد أبناء السيد عبد المتعال الإدريسي لاحقاً فتزوج بعضهم من نساء بنارتي، فالسيد المعز الإدريسي تزوج من السيدة/ فتحية طَطَرْ، والدتها مسكة علي عبد القادر من بنارتي، وكذلك تزوج السيد الكامل الحسن الإدريس من السيدة/ فتحية عباس الملك - بنت العمدة عباس عمدة أرقو - وأمها السيدة/ سبيكة بنت العمدة طه الملك عمدة بنارتي - الشهيرة باسم "سبوكة".

وعلى ذكر التاريخ الاجتماعي لجزيرة بنارتي فإن بعض الأسر العريقة المكونة لمجتمع مدينة دنقلا تتصل بجزيرة بلنارتي عن جداتٍ لهن مكانة اجتماعية في الجزيرة، فيُذكر أن سيدةً من أصولٍ تركيةٍ – أو مصريةٍ في روايةٍ أخرى – تدعى "صالحة" كانت ذات صلةٍ بخلوة السيدة مريم هرون، وأن رجلاً من أهل بنارتي من آل شيخ طويل وآل بهاء الدين ويُدعى "عز الدين محمد سعد" تزوجها فأنجب منها ولدين وثلاثاً من البنات، وكلهم سكنوا مدينة دنقلا وأسسوا أسراً عريقةً فيها، أما الأولاد فأولهم: عبد المتعال الذي أنجب ولدين، هما: برعي وعوض، وتوفيا في صباهما. وثانيهم: "محمد علي" الذي أنجب يوسف وحسن. وأما البنات فأولاهن "مريم"، وهي والدة السادة: أحمد محمد محمود النجار وإخوانه، والثانية "رضينة" وقد تزوجها السيد/ عبده عبدُ رَبُّهْ، وأنجب منها عثمان عبده عبد ربه وإخوانه، والثالثة "زكية" وقد تزوجها السيد حسين أحمد شاويش الشهير بـ"حسين أبْ شنب"، وأنجب منها السيد/ عز الدين والد الأستاذ/ كمال عز الدين وإخوانه. ويُذكر أن للسيد/ عز الدين محمد سعد بنتاً من غير السيدة/ صالحة كانت تُدعى "بَمْبَة" وقد تزوجها السيد/عبدُ رَبُّهْ فأنجب منها حسن عبد ربه وإخوانه. وما يزال البيت الأول لهذه الفروع موجوداً بجزيرة "بلنارتي" ويُعرف باسم "فلَّاحِنْ دَارْ"، أي بيت "الفلاحين، والدناقلة بصفة عامة يُطلقون اسم "فلاَّح" على ذي الأصول المصرية.

أستاذ/ إدريس حسن عبد ربه

أستاذ/ كمال عز الدين

أما التاريخ الإداري لجزيرة بنارتي فلا يقل شأناً عن عراقتها الدينية، فيكفي أنها المركز الإداري لكل قرى غرب النيل التي تحاذيها، والتي تضمها عمودية بنارتي، وهي كما أسلفنا تضم قرى "كُرْبَهْ" و"كُوَّيَةْ" و"دَمْبُوْ" و"بِرْكِيَّةْ" و"مَشُّوْ" و"الحَفِيْرْ" و"الْقَعَبْ". وكان أشهر عمدائها هو العمدة/ طه حمد عبد الدائم الزبير الملك، وهو ابن أخت أحد أوائل أعلام بنارتي المكونين لأكبر الأسر فيها، وهو السيد/ بهاء الدين محمد هرون شيخ طويل – الذي زوج ابنته "شهاوة لابن أخته العمدة/ طه، الذي تزوج كذلك من السيدة/ جارة سر الختم وديدي من أرتقاشة، وأنجب منها السيدة "سبيكة" التي سبق ذكرها.

و(العمدة/ طه حمد عبد الدائم الزبير الملك وهو ابن أخ الملك طمبل السابع آخر ملوك "مملكة أرقو" التي امتدت من المَحَسْ إلى الغَدَار شرقاً وغرباً وضمت حدود منطقة "دنقلا الكبرى" الحالية. وقد أزال الحكم التركي المُلك عن هذه المملكة بعزلهم الملك طمبل السابع ونفيه إلى أسوان وتخفيض المملكة إلى شياخة أرقو وعموديات وشياخات صغرى، ولولا تدخل الحاج/ عبد الصادق – رجلٌ من "إيماني"، وهو خال محمد بك حمد الملك – الذي ذهب لمقابلة الحاكم التركي في الخرطوم وتوسط لتكون الشياخة في الملوك، واستجاب الحاكم التركي وعيَّن السيد/ محمد بك حمد الملك أول شيخ شياخة أرقو، وهو الذي نقل مقر الشياخة من أرقو إلى إيماني. وعُيِّن عبد الصادق وصياً على محمد بك حمد الملك لصغر سنه. ويذكر أن محمد بك حمد الملك هو الأخ غير الشقيق للملك طمبل السابع) أخبرنا بذلك الفاتح الزبير عبد الدائم الملك.

من اليمين شيخ طويل شيخ بنارتي وشقيقه شيخ بهاء الدين
وابن اختهما العمدة طه حمد عبد الدائم الزبير الملك

يقول السيد/ عبد الله الزبير حمد الملك:( بدأت هذه السلسلة ببداية ملوك مملكة أرقو منذ البادية في أواخر القرن الخامس عشر الميلادي حتى انتهى عهد المملكة في القرن التاسع عشر الميلادي عند دخول التركية السودان، حيث كان آخر الملوك هو الملك طمبل السابع، ثم صارت إلى حكم إداري وقضائي في عهد من تولوا بعده، أي الملك حمد ثم الملك طمبل السابع ثم محمد بك الملك ثم العمدة حمد الملك ثم ابنه المرحوم الشيخ الزبير محمد الملك). https://www.alrakoba.net/590992

    وبعد وفاة العمدة/ طه الملك في أربعينات القرن الماضي  (1943م) تم تكليف ابنه العمدة/ أحمد طه الملك الذي ولد في العام 1904م ثم تخرج في كلية غردون قسم الآداب (اللغة الإنجليزية) وذلك في العام 1926م ثم عمل مترجماً لمأمور مروي ثم مترجماً بوزارة الداخلية، ثم تقاعد عند حلَّ الإدارة الأهلية في العام 1970م. توفي رحمه الله في العام 1990م. إنه ذلكم الهمام الذي تكحلت به عيناي في صغري وهو يفد إلى العاصمة فيُحِطُّ رحاله في بيتنا يوثره على الفنادق والنُزُل حباً وتكريماً لأهله، فتستقبله أسرتي استقبال الملهوف، يجدون فيه ريح وطنهم وأصلهم. وأذكر له بالاستحسان زيارته - بعد وفاة جدنا صالح بصير -

العمدة/ أحمد طه الملك

 للأسرة معزياً، وقد عرض على الأسرة بواجب الصداقة للجد تبرعه بالسعي لتخصيص الأراضي للأسرة بالجزيرة "بنارتي" ميراثاً، فشكرته الوالدة على ذلك وأعلمته باكتفائها وأختها بأزواجهم وأولادهم، وآثرت أن يوجه اهتمامه بإخوتهم في "بنارتي"، وظننا به أنه اهتم بذلك جداً.

     وقد أخرجت أسرة العمدة/ طه الملك الممتدة أعلاماً للسودان، منهم الكمندان/ علي طه، شقيق العمدة أحمد، وقد صار كمندان البوليس في البحر الأحمر، ثم شغل منصب قنصل السودان بأوغندا ثم سفير السودان المفوض بمصر، خاض الانتخابات العامة في الديمقراطية الأولى مرشحاً عن حزب الأمة. وهو والد البروفسور الاستشاري لأمراض المسالك البولية/ الفاضل الملك. صاحب زمالة الجراحين بأيرلندا والولايات المتحدة الأمريكية وهو يعمل الآن بدولة قطر، وبالرغم من أني لم ألتق به غير أني كنت مهتماً ومتابعاً لكتاباته التي تشف بالوطنية وحب بلاده.

ومنهم السيد/ مصطفى طه الملك أحد كبار التعاونيين الذين عرفهم السودان، وقد تفضل علينا - ونحن شباب بلده "بنارتي" - بعد إكمالنا للدراسة بالمرحلة الثانوية أن استوعبنا للعمل معه بـ"مصلحة التعاون" برفقة توأم عمري "محمد سيد أحمد محمد نور الدين"، حيث عملت فيها بـ"إدارة المراجعة الداخلية" بمكتب أم درمان، ومنها التحقت بالشرطة إثر إعلانهم بالحاجة لخريجين جامعيين، كما التحق محمد سيد أحمد بالسلطة القضائية قاضياً.

مولانا/ محمد علي طه الملك
 رحم الله مصطفى طه. ومنهم العميد/ عبد الله طه الملك كمندان المباحث الذي صار لاحقاً مسؤول الإنتربول في السودان، وهو الآن مقيم ببريطانيا، أما جمال أحمد طه العمدة فقد كان موظفاً بشرطة الجوازات ثم تعسكر فيها.

ومن أعلامهم مولانا/ محمد علي طه الملك القاضي بالمحاكم السودانية في عهد الرئيس نميري، وعضو منظمة العدل الدولية بـ"لاهاي". ومنهم الدكتور شرف الدين محمد حمد الملك، الباحث بمركز الدراسات السودانية بالقاهرة.

وعلى ذكر الأعلام الذين تتصل سيرتهم بجزيرة بنارتي أو أبناء الجزيرة، فنذكر الفريق الدكتور/ أحمد شيخ طويل الذي شغل نائب رئيس أركان القوات البرية إدارة، ووكيل جامعة كرري، ويذكر له أنه كان "أول الدفعة" في التخرج في الكلية الحربية السودانية. وكذلك البروفسير أنور أحمد عثمان عالم الفلك السوداني المشهور ومقدم البرنامج التلفزيوني الشهير باسم (الكون ذلك المجهول) في الفضائية السودانية. ومن الأعلام كذلك البروفيسور مبارك درار عالِم الفيزياء السوداني بعدد من الجامعات السودانية وصاحب النظرية النسبية الخاصة المعممة تطويراً لنظرية أينشتاين.

الفريق دكتور أحمد شيخ طويل هرون نائب رئيس هيئة الأركان
البروفسير أنور أحمد عثمان


ومن أبناء بنارتي كذلك مولانا المستشار/ أحمد إدريس علي، الذي تولى منصب مدير مصلحة الأراضي بولاية الخرطوم على عهد وزير العدل/ محمد بشارة دُوْسة، في العقد الثاني من هذه الألفية، وقد كان له فضلٌ مشكور في تخصيص دار لرابطة أبناء بنارتي بالخرطوم.

ومن أعلامها الباحث في التراث النوبي الأستاذ/ أحمد ساتي محي الدين شيخ طويل هرون، الذي كنت نزيلُه مراتٍ عدة في مقر إقامته بمدينة "جدة" السعودية، وأذكر له جهوده الكبيرة في خدمة أهل "منطقة دنقلا الكبرى" منذ يوليو 1992م، إذ كان يومها أمين شؤون الجمعيات في رابطة "أبناء منطقة دنقلا الكبرى" بالمنطقة الغربية – مكة والمدينة والطائف وجدة ورابغ – والتي تضم القرى والمدن في الولاية الشمالية بدءاً من "الْبَاجَةْ" جنوباً وحتى "أبو فاطمة" شمالاً. كما رأس لجنةً خماسيةً منبثقةً عن الرابطة مكلفةً بالعمل على تسيير رحلات مباشرة من المملكة إلى مطار دنقلا، وقد تتوجت جهودهم بالحصول على تصديق "مكتب الوكلاء الموحد" لتسيير رحلات جوية مباشرة بين "دنقلا – جدة – دنقلا"، وقد انطلقت أول الرحلات إلى "دنقلا" ومنها في يوم 12 أبريل 1993م، واستمرت الرحلات حتى عام 2013م. وقد كان "مكتب الوكلاء الموحد" يرأسه رجلٌ أمريكي الجنسية، وقد تفاعل مع طلب الرابطة في هذه الرحلات وأعطاه أولوية على عددٍ من الطلبات التي تقدمت بها روابط مناطق سودانية أخرى، وكان سبباً رئيساً في هذا الإنجاز. وقد لمست في الأخ/ أحمد ساتي السعي الدؤوب والتفاني والتضحية بمصالحه خدمةً للناس.


       
المستشار/ أحمد إدريس علي


الأستاذ/ أحمد ساتي محي الدين







ومن أعلام بتارتي كذلك الأستاذ الأديب والشاعر والقاص والإعلامي/ محمد عثمان ساتي محي الدين الأخ الشقيق الأكبر للأخ/ أحمد ساتي، الذي عمل بوزارة التربية والتعليم حتى صار مديراً لإدارة تعليم الكبار بولاية الجزيرة، وعمل بجمهورية اليمن معلماً معاراً. ثم انتدب للعمل بـ"تلفزيون ولاية الجزيرة" مقدماً لبرنامج "في ضيافة قرية". وهو من الرواد الأوائل لِكُتَّابِ القصص للأطفال في السودان بمجوعته المعروفة باسم (عمكم ساتي يحكي لكم)، والتي اشتملت على القصص والأمثال والحجاوي السودانية التربوية. توفي رحمه الله تعالى في العام 2021م.

كتب الصحفي الأستاذ/ أحمد المصطفى إبراهيم مقالاً تحت عنوان:( عمكم ساتي يحكي لكم) ما يلي:( في "كَابْ الْجِدَادْ" المتوسطة مطلع ستينيات القرن الماضي، وروافد "كَابْ الْجِدَادْ" المتوسطة من القرى المجاورة، حيث الدخول إليها أشبه بلحس الكوع من كثرة المتقدمين وضيق الفرص.. وكان زملاؤنا القادمين من "السِّرِيْحَةْ" التي كان ساتي مدير مدرستها الابتدائية يذكرون اسم الأستاذ ساتي عشرات المرات يومياً، يحدثوننا عن شعره، عن فنه، عن أخلاقه، وقد ملأ عليهم قلوبهم وكان مثالهم.

بعد عشرات السنين تعرفت على الأستاذ/ محمد عثمان ساتي عبر صديقه وصديقي الأستاذ عثمان الفيل، ووجدت ساتي رجلاً لطيفًا ومفيداً، ويعرف كيف يستثمر وقته

الأستاذ/ محمد عثمان ساتي
.. وفي أول زيارة لبيته بود مدني بصحبة عثمان طبعًا، تذكرت صديقي الأستاذ إبراهيم إسحق، حيث الصالون عبارة عن سرير يتوسط تلالاً من الكتب، في وقت نجد فيه بصوالين آخرين سرائر وكراسي وزخرف، ولا ورق إلا صحيفة على طاولة بعيدة، والأستاذ ساتي ـ كما عرفت ـ في هذه الدار هو في واحد من الأفعال الثلاثة يقرأ أو يكتب أو ينام رجل جاد ـ حفظه الله ـ ورغم هذه الجدية هو دائم الابتسامة لا يعرف الوجوم.

أهدانا الأستاذ ساتي في زيارتنا الثانية لبيته مجموعة من كتب الأطفال «حزمة» عشرة باللغة العربية واثنان باللغة الإنجليزية، هي مكتبة للصغار في زمن عز أن تجد للصغار كتباً.. والحريصون على تعويد أولادهم القراءة لا ملاذ لهم إلا الدار السودانية للكتب، ولكنك ستجد أنك تستورد ثقافة دولة مجاورة.

جديد حزمة ساتي التي عنوانها «عمكم ساتي يحكي لكم» دقة الاختيار للموضوعات والقصص التي ألفها للصغار، فهي تسد عجزاً تاماً وليس نقصاً في مكتبة الأطفال، وقد كان حريصًا على أن تكون شاملة جغرافيا السودان، مواكبةً للعصر، لا "كابيدة" فيها ولا "ريرة" ولا ماء بئرٍ يُجَرُّ بالعِجْلِ، بل بلغةِ عصرٍ كلها مدن وتقانة. وعندما يحدثهم عن التداخل الاثني يقدمه في شكل قصة تخدم كل الأهداف التربوية، وكل ذلك مصحوبًا برسومات شقيقه الفنان د. عبد اللطيف ساتي.

حزمة ساتي مطبوعة طباعة جيدة ومضبوطة «مُشكَّلة»، وقف على كل حرف فيها بنفسه، إلى أن خرجت من مطبعة ولاية الجزيرة - متفردة بها - كما يريدها أن تخرج... إنها خبرة رجل خدم التربية بإخلاص تقبل الله منا ومنه).

.https://www.alrakoba.net/220762/عمكم-ساتي-يحكي-لكم

ومن أعلام بنارتي الفنان التشكيلي البروفسير عبد اللطيف ساتي محي الدين الذي درس المرحلة الثانوية بمدرسة حنتوب الثانوية وتخرج فيها في العام 1958م (Grade2) لذلك لم تؤهله للدراسة بجامعة الخرطوم فسافر إلى ألمانيا الشرقية لدراسة الفن التشكيلي عام 1959، وتزوج 1963م من ألمانية تدعى "مارجريتا" وأنجب منها سمير وآمنة، وفي زيارته للسودان في العام 1969م تزوج من ابنة خالته الأستاذة "رقية محمد سيد أحمد" وأنجب منها دكتورة "سوزان" – في الاقتصاد – و"ساتي" الذي توفي في مهده. وبعد عودته للسودان تعاون مع الأستاذ/ "بشير محمد سعيد" في صحيفة الأيام في رسم الكاريكاتير، وعمل بتدريس الفنون بالمعهد الفني – كلية الفنون الجميلة حالياً – ثم هاجر في العام 1971م للعمل بمعهد بورنو للتدريس الذي صار لاحقاً جامعة "مايدوجوري" دولة نيجيريا. 

البروفسير عبد اللطيف ساتي
البروفيسور/ محمد عثمان محمود
 ثم تزوج من السيدة "دونس" التي كانت تعمل سكرتيرة في منظمة الزراعة الفاو بنيجيريا، وهي من ألمانيا الغربية وأنجب منها "ساتي" كذلك، ثم عاد مع زوجته "دونس" وابنه "ساتي" أخيراً للسودان في العام 2008م واستقر بمدني. وله مؤلفات باللغات الإنجليزية والألمانية، كما له إسهام كبير في اللغة النوبية باللهجة الدنقلاوية. توفي رحمه الله تعالى في العام 2022م.

ومن أعلام بنارتي كذلك الفريق شرطة "م" كامل إبراهيم عبد الرحيم مدير شرطة الحياة البرية "حرس الصيد" سابقاً. ومن أعلامها
كذلك المرحوم البروفيسور/ محمد عثمان محمود محمد الشيخ الشهير بلقب "وَلَدْ"، والذي زامل شقيقي محمد إدريس في مدرسة عطبرة الثانوية، ثم التحق بجامعة الخرطوم، وكان يقضي إجازاته الدراسية معنا في المنزل بأم درمان، ثم ابتعثته الجامعة للتحضير بمدينة ليفربول، فكان يأتي لقضاء إجازاته بـ"بنارتي" برغم معاناة السفر في ذلك العهد، وكان محباً للغته النوبية تمسكاً بأصله.

ومن الأعلام الأخ المرحوم/ علي محمد علي نور الدين الشهير بـ"علي دُوْل"، الذي التحق بـ"معهد المعلمين العالي" بعد إكماله المرحلة الثانوية بمدرسة "وادي سيدنا الثانوية" - و"معهد المعلمين العالي" كان يومذاك يتبع إدارياً لوزارة التربية والتعليم، وكنتُ قد أجريت دراسة حول هذا المعهد الذي كان مفخرة السودان أفريقياً فقد كان تدريبه للمعلمين على درجة عالية من الجودة المهنية والفنية - ثم التحق بكلية الزراعة بجامعة الخرطوم حيث تخرج فيها بتخصص الاقتصاد الزراعي، وبعد تخرجه تم توظيفه بوزارة الزراعة بقسم الاقتصاد الزراعي، ثم تمَّ ابتعاثه للدراسات العليا ببريطانيا. وأثناء عمله بوزارة الزراعة زار وفدٌ من "السوق الأوربية المشتركة" السودان ليقدم عوناً لما سُمي بـ"مشاريع الإعاشة"، تمكن "علي دول" من توجيه بعض الدعم لمشروع العمدة/ علي طه، وكان شرط الدعم أن يتحول المشروع إلى مشروع تعاوني الأمر الذي وافق عليه العمدة علي طه خدمةً لأهله وتم إشراك أهل بركية في المشروع. ثم عمل المرحوم/ علي دُوْل بصندوق العون السعودي قبل أن ينتقل للعمل بسلطنة عمان.

        ومن أعلام بنارتي كذلك المرحوم/ إسماعيل الطيب محمد الشيخ محمد منور، الذي درس بمدرسة "أرقو الأولية" ثم "أرقو الوسطى" وذلك في الخمسينيات من القرن الماضي، ثم التحق بـ"معهد البريد والبرق" في عطبرة برغم قبوله للدراسة بمدرسة وادي سيدنا الثانوية إلا أن ضيق ذات اليد لوالده اضطره للالتحاق بمعهد البريد والبرق. عمل بمؤسسة البريد والبرق في عدد من مدن السودان، منها: "القولد" و"الخرطوم" و"بورتسودان" و"واو" في جنوب السودان و"جبيت" على عهد قيادة الرئيس نميري لمعهد تدريب المشاة بـ"جبيت". ثم تزوج يوم عودة الرئيس نميري للحكم بعد "انقلاب هاشم العطا" في 22 يوليو 1971م. كان رحمه الله عضواً نشطاً بـ"جبهة الميثاق" مع الداعية المرحوم/ جعفر شيخ إدريس في بورتسودان، ثم عضواً بـ"الجبهة الإسلامية القومية" فاعلاً في الحملة الانتخابية لترشيح مرشحها الدكتور عبد الوهاب عثمان شيخ موسى "- حفير مشو -عن "دائرة دنقلا الشمالية" في العام 1986م، ثم الحملة الانتخابية لترشيح النائب الأول لرئيس الجمهورية الفريق/ بكري حسن صالح لعضوية "المجلس الوطني" في الحفير. وأخيراً عمل بمكتب البريد والبرق بـ"بركية"، ثم تم تعيينه عضواً بالمجلس التشريعي لمحلية دنقلا. عُرف رحمه الله تعالى بالنزاهة والاستقامة.

ومن أعلام بنارتي السيد/ محمد عثمان محمد طه، نائب مدير السكة حديد في عطبرة، ومدير قسم الحركة والبضائع ثم مدير القسم الأوسط في السكة حديد بـ"كوستي"، ثم مأمور السكة حديد في مدني، وذلك على عهد إدارة السيد/ مصطفى نوري للسكة حديد بعطبرة – أحد قياديي الاتحاد الاشتراكي لنظام الرئيس نميري – وبعد تقاعده عمل مديراً لمصنع إنتاج الدقيق بعطبرة ثم توفي بها لاحقاً.

هرون الشيخ محمد هرون
                    ومن أعلام بنارتي حكيم الجزيرة/ هرون الشيخ محمد هرون بهاء الدين، طبيب البلد، ولد ببنارتي، درس الأولية بأرقو والمرحلة المتوسطة بمعهد في أرقو والثانوي بمعهد في حي العرضة، امتهن التمريض بعطبرة وتلقى تدريبه لثلاث سنوات نال بعدها "شهادة التمريض – مساعد طبي عام"، عمل بالتمريض بعطبرة ودنقلا والبرقيق وأرقو ومشو وبنارتي.

ومن أعلامها وأعلام مجتمع مدينة عطبرة كذلك مولانا/ محمد الحاج عبد الله، تسمى باسم والده الذي توفي بعد ولادته بأربعين يوماً فهو محمد الحاج عبد الله ابن محمد الحاج عبد الله. تربى عند ابن خالته بأرقو السيد محمد أفندي سيد أحمد -والده الثاني- فالتحق فيها بالمدرسة الأولية، ولمّا شبَّ سافر إلى الحج مع السيد محمد أفندي سيد أحمد في مقتبل عمره. ثم بعد إكماله المرحلة الأولية في أرقو قصد عطبرة حيث الكثيرين من أهل بنارتي فانخرط فيها بورشة عطبرة - قسم الخياطين، ثم وظَّف ما اكتسبه من خبرة إدارية في قسم الخياطين فأسس شركة خاصة به أسماها "مخازن النجم" فكان متجراً ومصنعاً مصغر للملبوسات الجاهزة، وسافر لذلك إلى مصر وتشاد وتركيا ينمي عمله ويطوره. وقد استوعب عدداً من أبناء بنارتي للعمل في مصنعه هذا. صار أحد وجهاء مدينة عطبرة وأحد أقطاب مجتمعها. كما صار عضواً في المحكمة الشعبية مع السادة المحلاوي وحسن عربي والعمدة السرور وآخرين.

ومن أعلامها الشيخ فقير محمد علي منصور، إمام وخطيب مسجد بنارتي منذ خمسينيات القرن الماضي خلفاً لوالده محمد علي فقير في إمامة المسجد والخطابة. تلقى العلم عن والده وعن شيوخ بلنارتي، ونشأ في خلاويها

 محمد الحاج عبد الله
 التي كانت منتشرة على طول وعرض الجزيرة. ورحل في طلب العلم إلى مدينة عطبرة وإلى خلاوي قرية المحمية، ثم عاد إلى بنارتي. وهو أحد الذين يرجع لهم الفضل في تسيير الزواج ببنارتي مع الشيخ الزبير والعمدة أحمد طه وأحمد عبد الشديد وغيرهم. وله أيادٍ بيضاء في تسير كآفة شؤون البلد. كان عضواً في مجلس القضاء الأهلي في عمودية بلنارتي.

كان رحمه الله تعالى مستودع أسرار البيوتات، يكتب صادر رسائل الآباء والأمهات والزوجات ويقرأ لهن واردها، وكانت أسر المغتربين داخل البلد أو خارجها تحت إمرته ورعايته، وكان أكثر عمله إصلاح ذات البين بين الناس، مهموماً بقضايا البلد وتيسير أمور إنسانها. توفي رحمه الله تعالى في العام 1993م.

ومن أعلامها المرحوم/ محمد عثمان الشيخ، أحد أقطاب مدينة عطبرة والسكة حديد فيها. ولد في العام 1927م، ودرس بخلوة بنارتي والكتاب بالخرطوم بحري بعد رحوله لها في معية والده، ثم درس بالمرحلة الابتدائية والوسطى بالخرطوم قبل أن يلج مجال العمل الوظيفي في السكة حديد حتى أصبح كبير المفتشين فيها. والدته هي زينب أحمد محمد منصور من سلالة شيخ منور. وقد تزوج رحمه الله من ابنة عمه/ محاسن علي الشيخ، وأمها هي فاطمة بهاء الدين. وكان رحمه الله رجلاً تربوياً مثقفاً محباً للتعليم مثابراً. تقاعد في العام 1987م، فقد بصره في العام 1997م.

ومن أبنائه ومن أعلام بنارتي الدكتور/ الفاضل محمد عثمان الشيخ، استشاري طب وجراحة العيون، جراح

د. الفاضل محمد عثمان 
    الجلوكوما. من مواليد عطبرة في العام 1968. نال بكالوريوس الطب والجراحة – جامعة الخرطوم1994 م، والدكتوراه الإكلينيكية في جراحة وطب العيون من جامعة الخرطوم 2000م، زمالة المجلس الدولي لطب العيون. عمل رئيساً لقسم الجلوكوما واستشاري جراحة العيون بمركز الزرقاء التخصصي للعيون – الخرطوم، ومجمع مكة لطب العيون – الخرطوم، وممتحناً في مجلس التخصصات الطبية السوداني – قسم العيون، ونائباً رئيس مجلس طب العيون – المجلس الطبي السوداني.

ومن أعلامها شقيقي الأكبر الدكتور/ محمد إدريس الذي ولد في العام 1936م بمدينة عطبرة - حيث كان الوالد/ إدريس أحمد يوسف قد عمل بالسكة حديد بمدينة عطبرة واستقر بعائلته فيها - فدرس محمد إدريس بمدرس السعادة الأولية بعطبرة، ثم مرض واستشفى في أم درمان، فلم يكمل تعليمه في المدارس السودانية لذلك، لكنه التحق بالمدارس المصرية التي كان السيد/ محمد أحمد الرَّبْعَةْ مديراً للكلية القبطية، فالتحق محمد إدريس بها وفيها زامل البروفسير/ فتحي الربعة الذي كان ملتحقاً بالقسم العلمي فيها بينما التحق محمد بالقسم الأدبي. نال محمد شهادة "التوجيهية" فقُبِل على إثر ذلك بجامعة القاهرة فرع الخرطوم – كلية الآداب في قسم جغرافيا- وحيث أن الدراسة بجامعة القاهرة يومها كانت بالفترة المسائية فقد التحق موظفاً في ديوان الحسابات بوزارة الزراعة، الأمر الذي مكَّنه من إعالة الأسرة بعد وفاة الوالد عليه رحمة الله في العام 1951م. بعد التخرج عمل محمد في وزارة التربية معلماً بالمدرسة الأهلية  - في حقبة مديرها الأشهر الناظر/ النور إبراهيم الذي توطدت علاقته بمحمد إدريس مما أتاح لبعض أبناء بنارتي الإعادة بها برغم قرار الوزير حينذاك اللواء طلعت فريد الذي منع الإعادة بالمدارس الحكومية - ثم عمل محمد معلماً بمدرسة المؤتمر مع معهد التربية المتوسط، ثم ابتعث من وزارة التربية والتعليم لدراسة الماجستير في القاهرة، وبعد الماجستير كان يحاضر في جامعات الخرطوم والسودان والقاهرة وكلية الشرطة، ثم نال درجة الدكتوراة في جامعة الخرطوم. وانتهى به المطاف بالعمل بجامعة

د. محمد إدريس أحمد يوسف
 أفريقيا العالمية. عاش - رحمه الله تعالى - حياةً حافلة بالتعليم وخدمة طلابه. له من الأبناء: المهندس الكهربائي/ الهادي، المقيم بالمملكة العربية السعودية، وهشام – مهندس المعلومات والنظم، متزوج ومقيم بلندن - وبنته ندى – آداب وفلسفة من جامعة القاهرة فرع الخرطوم - المتزوجة والمقيمة بلندن. توفي رحمه الله تعالى في العام 2021 م.

ومن أعلامها محمد أحمد عثمان محمد عبد القادر أحمد عالم. ولد بجزيرة بنارتي في العام 1924. تلقى تعليمه بالخلوة وعمل بالزراعة. وفي الأربعينيات من القرن الماضي هاجر إلى مدينة "عطبرة" حيث عمل بالسكة حديد في وظيفة نجار ونقل إلى شرق السودان فعمل بمناطق "طوكر" و"أركويت" و"سنكات"، وكان مسؤولاً عن صيانة منزل الحاكم البريطاني بمدينة سنكات. ومن خلال وجوده بشرق السودان تعلم لهجة "الهدندوة". ثم سلك الطريقة الختمية حتى صار من خلفائها بمدينة عطبرة حتى وفاته، ويُذكر أن سبب نهجه الطريقة الختمية أنه التقى السادة الختمية في "حولية السيدة مريم" بمدينة "سنكات" - وهو حين ذاك لم ينجب ذريةً برغم سنوات زواجه - فطلب منه السادة الختمية التوجه إلى مدينة عطبرة وأخبروه أن بها خيرٌ له، فرحل إلى مدينة عطبرة وعمل بورش السكة حديد للنجارة فرزق في العام 1951م ببنته الأولى "فتحية" ثم توالى إنجابه بعدها. كان منزله قبلة أهل بنارتي بعطبرة، فقد سكنت منزله أكثر من اثني عشرة أسرة من أهل بنارتي، سوى القاصدين عطبرة للحاجات. وفي منتصف الخمسينات شارك مع آخرين في تأسيس زاوية بنارتي بمدينة عطبرة. وفي سبعينيات القرن الماضي قررت الحكومة طرد الطلاب القاطنين داخليات مدرسة عطبرة الحكومية الثانوية على إثر مظاهرات نظموها ضد الحكومة فاستضاف الحاج محمد أحمد سبعة وعشرين من الطلاب من مختلف أنحاء السودان بزاوية بنارتي وتكفل بإعاشتهم حتى انتهاء العام الدراسي ومغادرتهم إلى ذويهم. وعندما مرض في العام 1992م ونقل إلى الخرطوم للعلاج، وفي حوادث مستشفى الخرطوم وعند مرور أحد الاختصاصيين عليه تعرف به وكان أحد الطلاب الذين درسوا بمدرسة عطبرة الحكومية واستضافهم بمنزله، فقرر الطبيب على الفور نقله إلى مستوصف "دار الجراحة" الخاص وإجراء عملية جراحية له بمساعدة خمسة من الاختصاصيين وتكفل الطبيب بكل منصرفات العلاج ورافقه

محمد أحمد عثمان محمد
بسيارته عند خروجه وتكفل بكل منصرفات "الكرامة" وبعدد خروفين، كل ذلك جزاء إحسانه لهم. كان رحمه الله كثير الرحلة لزيارة الرسول صلى الله عليه وسلم، ودلالة محبته للرسول صلى الله عليه وسلم أنه توفي رحمه الله تعالى في اليوم الثاني عشر من شهر ربيع الأول، وهو يوم المولد النبوي على الأشهر، وذلك في العام 1423هـ الموافق للعام الميلادي 2002م. 

ومن أعلام بنارتي كذلك الأستاذ/ شيخ طويل الشيخ محمد أحمد شيخ منور، الذي درس بمدرسة "أرقو الأولية" ثم "كرمة المتوسطة" ثم "دنقلا الثانوية" وفيها زامل السيدين "بكري حسن صالح" و"عبد الرحيم محمد حسين"، ثم التحق بجامعة الخرطوم "كلية الآداب" ودرس بها اللغتين الإنجليزية والعربية، وبعد تخرجه عمل بالمدارس الثانوية بالخرطوم و"سنار" معلماً للغة الإنجليزية، ثم عمل مراسم القصر الجمهوري في عهد الرئيس جعفر نميري ورافق الرئيس في جولاته الداخلية والخارجية. ثم تغرب مترجماً في سلطنة عمان، ثم رجع إلى السودان وعمل بالتجارة ثم تغرب مرة أخرى في إمارة أبي ظبي ثم أخيراً في دولة قطر وهي مستقره الآن.

وفي العام 1936م أنشأ أهل بنارتي مشروع "بركية الزراعي التعاوني الأهلي" بشراكة بين أهل بنارتي بنسبة 75% وأهالي "كية" بنسبة 25%، وكان اسمه مشروع "بُنَّارْتِي – كُيَّةْ" لأن الشياخة كانت موحدة بين "كُيَّةْ" و"بِرْكِيَّةْ" و"دَمْبُوْ" وذلك على عهد شيخ الشياخة/ الحسن محمد بيك، وقد رأس الشيخ محمد الشيخ مجلس إدارة المشروع وهو عم البروفيسور "ولد"، الطيب والد إسماعيل أمين المال. ثم لاحقاً في نهاية سبعينات القرن الماضي ومن وحي آثار فيضان النيل في العام 1946م أقام أهل "بُنَّارْتِيْ" بشراكة أهل "دَمْبُوْ" في العام 1980م "مشروع علي طه الزراعي" بـ"دَمْبُو" الذي بدأ مشروعاً زراعياً خاصاً ثم صار شراكة بين أهل "بُنَّارْتِيْ" وأهل "دَمْبُوْ"، وكان غالب المُلَّاك من أهالي "بُنَّارْتِيْ"، وقبل نحو سنتين أو أكثر استجلب السيد/ علي محمد علي الشهير بـ"علي دُوْل" طلمبات لري المشروع، وذلك عبر معونات "السوق الأوربية المشتركة" التي سبق ذكرها. وقد أسعدني الحظ بأن كان لي قرار توجيه "العون السعودي" الذي خصص للولاية الشمالية، فوصلت بجزءٍ منه أهلي في هذا المشروع.

كما شارك أهل بنارتي في تأسيس وإنجاح "اتحاد أرقو التعاوني" الذي شارك فيه أهالي قرى ريفي "أرقو" وريفي "الحفير" وضم مشاركين من "دُنْقُلا" وحتى "كَرْمَة".  كما شارك أهم بنارتي في البناء والتشييد لـ"مستشفى أرقو" ومُثِّلوا في مجلس إنشائها ومجلس إدارتها الأول.

هذه بنارتي وهي انتمائي وإنها (وطني لوْ شُغِلْتُ بالخُلْدِ عنهُ نَازَعَتْنِي إِلَيْهِ في الخُلْدِ نَفْسِي).. 

الأربعاء، 3 سبتمبر 2025

 

الأستاذ اللواء/

أحمد إدريس...

أحاديث الزمان والإنسان (1)

"إنسانُ الشمال" بين الهجرية الطوعية والهجرة القسرية .. إيمانٌ وعطاء

    على سنة الله وأقداره في أهل شمال السودان جرت سنة الله في أهلنا منذ قديم الزمان بالهجرة داخل البلاد وخارجها، نشراً للعلم وضرباً في الأرض طلباً لأوسع أبواب الرزق، فكانت هجرة النوبيين قديماً إلى أواسط السودان وأقاصيه، فسالت الأسر من الشمال تتبَّع فروع النيلين الأبيض والأزرق فتأسست بهم القرى في سهول "البطانة" وتسمَّت بهم الفُرقان في ضفاف "بَحْر أَبْيَض" وقامت عليهم سُوْح العلم وعمُرت بهم بيوت الله وفُتِحتْ بهم للناس أبواب المعاش. تشهد بذلك أعرق المساجد في البلاد بدءاً بمسجد "أرباب العقائد" ومسجد الشيخ إدريس بن محمد الأرباب بـ
"العيلفون" و"الشيخ الياقوت"، كما تسمَّتْ بأسماء منابعهم في الشمال مدنٌ وقرىً، منها "المحس كُترانج" و"المحس طيبة" و"ألتِي" و"النُّوبةْ" و"الكَوِّة" و"الدَّناقْلَة" فضلاً عن "بُرِّي" و"حِلَّة حمد" و"حِلَّة خُوْجَلِي" و"الخُوْجَلَاب" و"القِطِيْنَة" و"جزيرة الفيل" وغيرها.
 بل تأسست بهم المدن والقرى والجزر في وسط السودان وجنوبه، فجزيرة "تُوْتِي" وربان الاستقرار فيما حولها من "الخرطوم" و"الخرطوم بحري" كانوا "حمد" و"خوجلي". وفي الخرطوم كان "أَرْبَابْ العقائد" ومسجده الكائن شمال غرب الخرطوم والذي سُمي بعد تجديده في العهد التركي بـ"مسجد فاروق". 
مسجد الشيخ إدريس بالعيلفون
    ولم تقتصر هجرة إنسان الشمال على النوبيين فحسب، بل هاجر "البديرية" إلى كل قرى وجزر ومدن الولاية الشمالية، ولذلك نجد كثيراً من أسر النوبيين ذوي أصول من "البديرية"، كما هاجرت "البديرية" إلى شتى بقاع السودان لا سيما جزئه الغربي فعمُرت بهم مدن غرب السودان "الأبيض" و"بارا" و"النهود" و"أم بادر" وغيرها، ومن رواد هجرتهم الشيخ/ إسماعيل الولي جد الزعيم الأزهري، الذي نشر الطريقة الإسماعيلية في كثير من بقاع السودان. ومن تلك الأصقاع جاء منهم إلى سُدَّة الذكر في سماوات السودان كثيرٌ منهم، أمثال المشير/ عبد الرحمن سوار الدهب، والزعيم/ إسماعيل الأزهري وغيرهم. 
المرحوم المشير/ عبد الرحمن سوار الدهب 
    ومن البيوتات المهاجرة التي اتصلت بالشايقية أولاد غلام الله بن عائد الركابي الذين قطنوا دنقلا العجوز ثم انتشرت بطون "الركابية" من حفيده "ركاب" في كل بقاع السودان، وكذلك وأولاد جابر الأربعة الذين ينتسبون إلى غلام الله بن عائد كذلك والذين نشروا الفقه والتصوف الصحيح في كثيرٍ من
ربوع السودان، حتى قال فيهم "فَرَحْ وَدْ تَكْتُوْكْ":(وين أولادْ جابر .... الأربعةْ العُلَمَاْ الأَكَابِرْ..
 جالسينْ على المنابرْ.. عَلَّمُوْنَا الـمَانَا خَابِرْ). 
    وعلى الصعيد العالمي فقد عرفت أمريكا "سَاْتِّي ماجد"، وعرفت أندونيسيا "الشيخ أحمد بن محمد السُوْرْكُتِّي الأنصاري" الذي أسس فيها (في سبتمبر/أيلول 1914(...) جمعية الإصلاح والإرشاد الإسلامية الشهيرة اليوم بالإرشاد) وهو(من مواليد دنقلا بالسودان عام 1875، وتوفي في "جاكرتا" قبل الاستقلال بعامين في سبتمبر/أيلول 1943). ومؤخراً إبان فترة الاستعمار كانت هجرة الشيخ أحمد حسون إلى أمريكا عن رابطة العالم الإسلامي داعيةً ومرشداً لحركة الزنوج المسلمين بها، لذلك ارتبط اسمه بمسيرة الرمز الأمريكي المسلم/ مالكوم إكس. وذلك فضلاً عن هجراتهم لدول الجوار من مصر والشام والحجاز ودول الخليج. 
الشيخ أحمد حسون والداعية مالكم إكس
    وليس من سخطٍ ولا تبرمٍ من الأهل في السُنَّةِ الربانية الغالبة والخيِّرة، وما يدل على ذلك عدم ارتدادهم في هجرةٍ عكسيةٍ للمَوَاطِنِ الأولى برغم تدابير الحكومات الاستعمارية في إنشاء المشاريع الزراعية توطيناً لأهل الشمال ألا ينزحوا طوعاً ويهاجروا عن ديارهم، فأقام الحكم الثنائي لذلك الغرض مشاريع الولاية الشمالية الزراعية بدءاً بمشروع "حوض السليم" بمدينة
"دنقلا" في العام 1910م، و"مشروع الغابة" الزراعي بمدينة "الغابة" في العام 1917م، و"مشروع البرقيق" الزراعي بين مدينتي "أرقو" و"كرمة" في العام 1943م. لكنَّ أهلَ الشمال غالباً ما يعتبون وينهضون ضد الإرادات الإدارية التي تتحكم في استقرارهم وتضطرهم للهجرة داخلياً أو خارجياً، ذلك الحال الذي بدأ بسياسة الخليفة التعايشي للإمام المهدي في تسلطه على أهل "المتمة"، ثم سياسة الحكم الوطني بعد الاستقلال في عهد حكومة "الفريق عبود" وقصة "تهجير الحلفاويين" بغرض إنشاء "السد العالي"، وتكرر الشأن في عهد حكومة الإنقاذ مع إنشاء "سد مروي" والتهجير الكبير لقرى المناصير، وفي كل تلك التجارب للتهجير نجد من أهل تلك البقاع من تمسَّك بموطنه وأقام جواره وأعاد تعمير أطرافه تحت شعارات "حلفا دغيم ولا باريس" - كما ردَّد حينها أهالي حلفا القديمة- أو شعار 
"الخيار المحلي" الذي تدثر به بعض المناصير الذين فضَّلوا 
البقاء حول بحيرة "سد مروي" على الهجرة عنها إلى بلاد لم يألفوها، فبالرغم من الآثار الإيجابية على منطقة "حلفا الجديدة" بإقامة المشاريع الزراعية عليها لتوطين المهجرين إلا أنه لا أرض تعدل موطن الأجداد ومراتع الصبا. 
وقد مثَّل فيضان نهر النيل واحدة من أهم عوامل هجرة إنسان الشمال عن قراه فضلاً عن الجزر التي يحفها النيل من كل جانب، فأسسوا المدن الجديدة فيها أو عمروها على أقل تقدير، وما "دنقلا" إلا هبة النيل. ولم يوقف تهديد النيل إلا استحداث البحيرتين؛ بحيرة سد مروي والسد العالي.

وبهجراتهم الباكرة يعتبر أهل الشمال رواد الاغتراب للسودانيين، فتأسست بهم الجاليات الخارجية في وقت باكر واستغلوا تجمعاتهم في الخارج لدعم أسرهم وقراهم وتنمية أريافهم ببناء المدارس والمشافي والتكافل الاجتماعي في الأفراح والأتراح وتكاليف العلاج وغيرها. وقد شهدت الدور الكبير لرابطة أبناء "بلنارتي" في المملكة العربية السعودية – جدة والرياض - ودورهم الملموس في "النفير" لتنمية المنطقة بتأسيس رياض الأطفال وعمل "شفخانة" وتهيئة المساجد بالمكيفات، كما بنوا المدارس في قرية "دمبو" المجاورة.

الشيخ/ سوركتي

وعلى هذه السنة القدرية الغالبة في أهل الشمال، هاجر أهلنا
الأوائل من مناطق المحس والسكوت في شمال الولاية الشمالية، ليجدوا مواقع لهم في وسطها، فنشأت لذلك قرىً للمَحَس تتاخم قرى الدناقلة، فتأسست بهم قرى المَحَس الواقعة جنوب مدينة "أَرْقُوْ
" مثل "كَمْنَارْ" و"أَبُوْ حُجَارْ" و"السَّرَّارِيَّةْ" و"أَبِتَّهْ"

إن أول ما حفظنا من هجرات أجدادنا أ أخوال والدتنا - على وجه الخصوص أنهم نزحوا من قرية "فِرِّيق" في المحس في منتصف القرن التاسع عشر الميلادي إبان فترة الحكم التركي للسودان، فجاؤوا دعاةً ومعلمين للقرآن لشتى بقاع السودان سيما الشمال والغرب، فقد كانت هجرتهم إلى أواسط السودان طلباً للرزق ونشراً للعلم، فكان مقرهم الخرطوم ثم بعد انتقال عاصمة البلاد إلى مدينة "أم درمان" انتقل المحس إلى "الموردة" و"أبو رُوْفْ" و"بيت المال". 

وكا

الفاتح بشارة
ن من روادهم في ذلك جدنا خال الوالدة - الشيخ الحافظ المعلم/ إدريس عبد الكريم وأخوه محمد، فبينما استقر جدنا/ الشيخ إدريس عبد الكريم بحي الموردة في أم درمان فقد استقر شقيقه بمدينة الأبيض وأسس بها خلوة عرفت باسم "خلوة شيخنتود" ومن نسله الفريق/ الفاتح بشارة – مدير مكتب الرئيس الفريق عبود، وقد كان أحفاده يواصلون أهلنا في حي المودة قبل أن تنقطع بهم السبل.

امتهن جدنا الشيخ/ إدريس عبد الكريم التجارة بسوق الموردة شأن الكثيرين من المحس من أهل الوالدة الذين اشتهروا بمحالهم التجارية بسوق الموردة من أمثال "محمد إبراهيم" و"أبو حوى" و"أبو شوشة" و"محمد الحسن" و"أولاد شمد" وغيرهم من الأسماء العريقة التي عرفها سوق الموردة، وكان سوقاً عامراً.

كانت الحرف الرئيسة في الموردة هي صيد الأسماك والتجارة التي استحوذ المحس عليها فكانوا

البكباشي/ خلف الله خالد

هم أكثر العاملين بها. وقد تشكل المجتمع السكاني للموردة من 
المحس و"الجموعية" و"المواليد" و"الجعليين". ومن أشهر الأعلام التي سكنت الموردة يومذاك السيد/ الدرديري محمد عثمان - عضو مجلس السيادة الأول في السودان- والبكباشي/ خلف الله خالد – أول وزير دفاع في الحكومة الوطنية بعد السودنة- وأبو صالح والد البروفسير/ حسين أبو صالح – وزير الخارجية الأسبق- وبعض الضباط الجنوبيين من الجيش الذين ألحقوا بالجيش المصري ثم الجيش السوداني بعد السودنة.

الرئيس/ جعفر نميري

ولجدنا الشيخ/ إدريس عبد الكريم أبناء، منهم محمد الذي صار موظفاً كبيراً في هيئة السكة حديد بعطبرة، ومن أبنائه كذلك الأميرلاي/ يوسف إدريس عبد الكريم الذي زامل في الكلية الحربية الصاغ/ صلاح سالم، ثم شغل قيادة "معهد تدريب المشاة" في أم درمان، وقد شهدته في طفولتي، فقد كان يأتي راجلاً من داره بحي الموردة مروراً بـ"خور أبو عنجة" وهو في هندام الجندية يومذاك، مرتدياً "الرداء" والقميص العسكري مع حذاء الجندية والجوارب 
 الطويلة و"الكاب". فكان يأتي في الصباح الباكر إلى دارنا ليتناول القهوة مع بنات عماته – أمهاتنا – ثم ينطلق إلى "مدرسة المشاة" – سميت "معهد تدريب المشاة" لاحقاً - القريبة ليطلق صافرة "الجمعون" الصباحي. وقد أحيل للتقاعد في أول عهد انقلاب الرئيس جعفر نميري. وقد تزوج من امرأة مصرية.

أما هجرة أصولنا للوالد وهم "الدناقلة" من جزيرة "بُنَّارتي" أو "بُلَّنارتي" – على الرواية الحديثة – والتي جاءت لاحقاً بعد هجرة أصولنا من المحس بنحو الخمسين عاماً، وذلك بعد إقامة الاستعمار البريطاني لمؤؤسات الدولة في الخرطوم وأم درمان. وقد سبقت هجرتهم إلى وسط السودان هذه هجرة أولى أعقبت الدمار الذي ألحقه النيل بفيضانه في العام 1946م بالجزء الشمالي من جزيرة بنارتي حيث مساكنهم فيها، فاستوطنوا مدينة "ارقو" وأسسوا بها حي "أرقو الحضور".

وقد راد هجرة أهلنا الدناقلة من "بنارتي" إلى أم درمان "الموردة" جدنا للوالدة الشيخ/ صالح محمد بصير الذي وفد إلى "الموردة" بأم درمان، وعمل بتجارة التجزئة بسوق الموردة وعرف باسم "صالح مبسوط" وذلك لتكراره سؤال المشتري بقوله: مبسوط؟ ثم استقدم الشيخ/ صالح أخاه/

الدرديري محمد عثمان
 "حامد" من بلنارتي وألحقه
 للعمل مع أسطى/ بشير – أشهر خياطي الثياب البلدية بالموردة. ثم تزوج الشيخ/ صالح من إحدى كريمات المحس بالموردة وهي الحاجة/ كلتوم عبد الكريم وهي جدتنا للوالدة، فأنجبت له الوالدة – فاطمة صالح – وخالتنا نفيسة. وكان داره عامراً محشوداً بالزوار اليوميين من الصيادين وغيرهم، ومن الزوار القادمين من "بلنارتي". أخبرتنا والدتنا عن حال بيته فقالت، كانت مؤونة البيت اليومية لمقابلة زواره هي "وُقَّةْ عجالي" و"وُقَّةْ ضان" – والوُقَّة تزن اثنين وربع من الكيلو –كما كان بالمنزل عدد عشرين 20 سريراً وخمسة "أزيار" لشرب الماء. كما حوى داره مكتبة. وبعد وفاة زوجه/ كلتوم تزوج الشيخ/ صالح من امرأة من جزيرة بلنارتي وأنجب منها ثلاث بنات وولد.

ترجع أصول ومنابت أهل بيتي الأبوي "الدناقلة" - كما أسلفت - إلى جزيرة "بُلَّنَارْتِي" الواقعة في قلب النيل بالولاية الشمالية بين جزيرتي "مَرَوَارْتِي" و"أَرْتِقَاشَهْ". غير أن صلتي بأهلي في هذه 

البروفسير/ حسين أبو صالح

 المنطقة كانت عبر نزوحهم أفراداً وجماعاتٍ إلى عاصمة البلاد الوطنية أم درمان حيث يقع مسكننا ذلك.

كل تلك الهجرات لأصولنا من المحس والدناقلة لم تترك في نفوس الأهل آثاراً فقد كانت هجرة فرضتها الأقدار – وقد عرفت حضارة النوبة الإيمان وهو يقتضي التسليم للأقدار – لكن الهجرة بأمر الحكام هو ما يدعو الناس لمناهضتها مطالبةً بحقوقهم الإنسانية وتمسكاً منهم بمهد تاريخهم ومسرح ذكرياتهم، وهو ما قاسوه في أول عهدهم بأم درمان.

خريطة السودان والولاية الشمالية بها وموقع قرى وجزر الولاية الشمالية ومحلية دنقلا المعاصرة