الأستاذ اللواء/
أحمد
إدريس...
أحاديث الزمان والإنسان (1)
"إنسانُ الشمال" بين الهجرية الطوعية
والهجرة القسرية .. إيمانٌ وعطاء
"العيلفون" و"الشيخ الياقوت"، كما تسمَّتْ بأسماء منابعهم في الشمال مدنٌ وقرىً، منها "المحس كُترانج" و"المحس طيبة" و"ألتِي" و"النُّوبةْ" و"الكَوِّة" و"الدَّناقْلَة" فضلاً عن "بُرِّي" و"حِلَّة حمد" و"حِلَّة خُوْجَلِي" و"الخُوْجَلَاب" و"القِطِيْنَة" و"جزيرة الفيل" وغيرها. بل تأسست بهم المدن والقرى والجزر في وسط السودان وجنوبه، فجزيرة "تُوْتِي" وربان الاستقرار فيما حولها من "الخرطوم" و"الخرطوم بحري" كانوا "حمد" و"خوجلي". وفي الخرطوم كان "أَرْبَابْ العقائد" ومسجده الكائن شمال غرب الخرطوم والذي سُمي بعد تجديده في العهد التركي بـ"مسجد فاروق".
![]() |
| مسجد الشيخ إدريس بالعيلفون |
![]() |
| المرحوم المشير/ عبد الرحمن سوار الدهب |
ربوع السودان، حتى قال فيهم "فَرَحْ وَدْ تَكْتُوْكْ":(وين أولادْ جابر .... الأربعةْ العُلَمَاْ الأَكَابِرْ.. جالسينْ على المنابرْ.. عَلَّمُوْنَا الـمَانَا خَابِرْ).
![]() |
| الشيخ أحمد حسون والداعية مالكم إكس |
"دنقلا" في العام 1910م، و"مشروع الغابة" الزراعي بمدينة "الغابة" في العام 1917م، و"مشروع البرقيق" الزراعي بين مدينتي "أرقو" و"كرمة" في العام 1943م. لكنَّ أهلَ الشمال غالباً ما يعتبون وينهضون ضد الإرادات الإدارية التي تتحكم في استقرارهم وتضطرهم للهجرة داخلياً أو خارجياً، ذلك الحال الذي بدأ بسياسة الخليفة التعايشي للإمام المهدي في تسلطه على أهل "المتمة"، ثم سياسة الحكم الوطني بعد الاستقلال في عهد حكومة "الفريق عبود" وقصة "تهجير الحلفاويين" بغرض إنشاء "السد العالي"، وتكرر الشأن في عهد حكومة الإنقاذ مع إنشاء "سد مروي" والتهجير الكبير لقرى المناصير، وفي كل تلك التجارب للتهجير نجد من أهل تلك البقاع من تمسَّك بموطنه وأقام جواره وأعاد تعمير أطرافه تحت شعارات "حلفا دغيم ولا باريس" - كما ردَّد حينها أهالي حلفا القديمة- أو شعار "الخيار المحلي" الذي تدثر به بعض المناصير الذين فضَّلوا
![]() |
وبهجراتهم
الباكرة يعتبر أهل الشمال رواد الاغتراب للسودانيين، فتأسست بهم الجاليات الخارجية
في وقت باكر واستغلوا تجمعاتهم في الخارج لدعم أسرهم وقراهم وتنمية أريافهم ببناء
المدارس والمشافي والتكافل الاجتماعي في الأفراح والأتراح وتكاليف العلاج وغيرها.
وقد شهدت الدور الكبير لرابطة أبناء "بلنارتي" في المملكة العربية السعودية
– جدة والرياض - ودورهم الملموس في "النفير" لتنمية المنطقة بتأسيس رياض
الأطفال وعمل "شفخانة" وتهيئة المساجد بالمكيفات، كما بنوا المدارس في قرية
"دمبو" المجاورة.
![]() |
| الشيخ/ سوركتي |
وعلى
هذه السنة القدرية الغالبة في أهل الشمال، هاجر أهلنا
الأوائل من مناطق المحس والسكوت
في شمال الولاية الشمالية، ليجدوا مواقع لهم في وسطها، فنشأت لذلك قرىً للمَحَس تتاخم قرى الدناقلة، فتأسست بهم قرى المَحَس الواقعة جنوب مدينة "أَرْقُوْ" مثل "كَمْنَارْ" و"أَبُوْ حُجَارْ"
و"السَّرَّارِيَّةْ" و"أَبِتَّهْ".
إن أول ما حفظنا من هجرات أجدادنا أ أخوال والدتنا - على وجه الخصوص أنهم نزحوا من قرية "فِرِّيق" في المحس في منتصف القرن التاسع عشر الميلادي إبان فترة الحكم التركي للسودان، فجاؤوا دعاةً ومعلمين للقرآن لشتى بقاع السودان سيما الشمال والغرب، فقد كانت هجرتهم إلى أواسط السودان طلباً للرزق ونشراً للعلم، فكان مقرهم الخرطوم ثم بعد انتقال عاصمة البلاد إلى مدينة "أم درمان" انتقل المحس إلى "الموردة" و"أبو رُوْفْ" و"بيت المال".
وكا
![]() |
| الفاتح بشارة |
امتهن جدنا الشيخ/ إدريس عبد الكريم التجارة بسوق الموردة شأن الكثيرين من المحس من أهل الوالدة الذين اشتهروا بمحالهم التجارية بسوق الموردة من أمثال "محمد إبراهيم" و"أبو حوى" و"أبو شوشة" و"محمد الحسن" و"أولاد شمد" وغيرهم من الأسماء العريقة التي عرفها سوق الموردة، وكان سوقاً عامراً.
كانت الحرف الرئيسة في الموردة هي صيد الأسماك والتجارة التي استحوذ المحس عليها فكانوا
![]() |
| البكباشي/ خلف الله خالد |
هم أكثر العاملين بها. وقد تشكل المجتمع السكاني للموردة من المحس و"الجموعية" و"المواليد" و"الجعليين". ومن أشهر الأعلام التي سكنت الموردة يومذاك السيد/ الدرديري محمد عثمان - عضو مجلس السيادة الأول في السودان- والبكباشي/ خلف الله خالد – أول وزير دفاع في الحكومة الوطنية بعد السودنة- وأبو صالح والد البروفسير/ حسين أبو صالح – وزير الخارجية الأسبق- وبعض الضباط الجنوبيين من الجيش الذين ألحقوا بالجيش المصري ثم الجيش السوداني بعد السودنة.
![]() |
| الرئيس/ جعفر نميري |
ولجدنا الشيخ/ إدريس عبد الكريم أبناء، منهم محمد الذي صار موظفاً كبيراً في هيئة السكة حديد بعطبرة، ومن أبنائه كذلك الأميرلاي/ يوسف إدريس عبد الكريم الذي زامل في الكلية الحربية الصاغ/ صلاح سالم، ثم شغل قيادة "معهد تدريب المشاة" في أم درمان، وقد شهدته في طفولتي، فقد كان يأتي راجلاً من داره بحي الموردة مروراً بـ"خور أبو عنجة" وهو في هندام الجندية يومذاك، مرتدياً "الرداء" والقميص العسكري مع حذاء الجندية والجوارب
الطويلة و"الكاب". فكان يأتي في الصباح الباكر إلى دارنا ليتناول القهوة مع بنات عماته – أمهاتنا – ثم ينطلق إلى "مدرسة المشاة" – سميت "معهد تدريب المشاة" لاحقاً - القريبة ليطلق صافرة "الجمعون" الصباحي. وقد أحيل للتقاعد في أول عهد انقلاب الرئيس جعفر نميري. وقد تزوج من امرأة مصرية.
أما
هجرة أصولنا للوالد وهم "الدناقلة" من جزيرة "بُنَّارتي" أو
"بُلَّنارتي" – على الرواية الحديثة – والتي جاءت لاحقاً بعد هجرة
أصولنا من المحس بنحو الخمسين عاماً، وذلك بعد إقامة الاستعمار البريطاني لمؤؤسات
الدولة في الخرطوم وأم درمان. وقد سبقت هجرتهم إلى وسط السودان هذه هجرة أولى
أعقبت الدمار الذي ألحقه النيل بفيضانه في العام 1946م بالجزء الشمالي من جزيرة
بنارتي حيث مساكنهم فيها، فاستوطنوا مدينة "ارقو" وأسسوا بها حي "أرقو
الحضور".
وقد راد هجرة أهلنا الدناقلة من "بنارتي" إلى أم درمان "الموردة" جدنا للوالدة الشيخ/ صالح محمد بصير الذي وفد إلى "الموردة" بأم درمان، وعمل بتجارة التجزئة بسوق الموردة وعرف باسم "صالح مبسوط" وذلك لتكراره سؤال المشتري بقوله: مبسوط؟ ثم استقدم الشيخ/ صالح أخاه/
![]() |
| الدرديري محمد عثمان |
للعمل مع أسطى/ بشير – أشهر خياطي الثياب البلدية بالموردة. ثم تزوج الشيخ/ صالح من إحدى كريمات المحس بالموردة وهي الحاجة/ كلتوم عبد الكريم وهي جدتنا للوالدة، فأنجبت له الوالدة – فاطمة صالح – وخالتنا نفيسة. وكان داره عامراً محشوداً بالزوار اليوميين من الصيادين وغيرهم، ومن الزوار القادمين من "بلنارتي". أخبرتنا والدتنا عن حال بيته فقالت، كانت مؤونة البيت اليومية لمقابلة زواره هي "وُقَّةْ عجالي" و"وُقَّةْ ضان" – والوُقَّة تزن اثنين وربع من الكيلو –كما كان بالمنزل عدد عشرين 20 سريراً وخمسة "أزيار" لشرب الماء. كما حوى داره مكتبة. وبعد وفاة زوجه/ كلتوم تزوج الشيخ/ صالح من امرأة من جزيرة بلنارتي وأنجب منها ثلاث بنات وولد.
ترجع أصول ومنابت أهل بيتي الأبوي "الدناقلة" - كما أسلفت - إلى جزيرة "بُلَّنَارْتِي" الواقعة في قلب النيل بالولاية الشمالية بين جزيرتي "مَرَوَارْتِي" و"أَرْتِقَاشَهْ". غير أن صلتي بأهلي في هذه
![]() |
| البروفسير/ حسين أبو صالح |
المنطقة كانت عبر نزوحهم أفراداً وجماعاتٍ إلى عاصمة البلاد الوطنية أم درمان حيث يقع مسكننا ذلك.
كل تلك الهجرات لأصولنا من المحس والدناقلة لم تترك في نفوس الأهل آثاراً فقد كانت هجرة فرضتها الأقدار – وقد عرفت حضارة النوبة الإيمان وهو يقتضي التسليم للأقدار – لكن الهجرة بأمر الحكام هو ما يدعو الناس لمناهضتها مطالبةً بحقوقهم الإنسانية وتمسكاً منهم بمهد تاريخهم ومسرح ذكرياتهم، وهو ما قاسوه في أول عهدهم بأم درمان.











.jpg)

