أحمد إدريس...
أحاديث الزمان والإنسان (3)
أنا أمدرمان...
![]() |
| خالتي/ نفيسة صالح "رحمها الله تعالى" |
كانت "الموردة" هي الميناء النيلي الرابط بين السافل والصعيد – الشمال؛ الذي مثلته ولاية نهر النيل بدءاً بالشلال النيلي السادس، والجنوب؛ الذي مثلته ولاية الجزيرة وما خلفها – فكانت الحياة فيها تعج بسبب التجارة مع تنوع الحرف والمهن وكثرة الناس، فكان سوقها عامراً كحال مساكننا.
كانت
لهذه المواقع العسكرية مؤثراتٌ صوتية وحركية أفعمت طفولتنا في هذا الحي، فقد كان
نشاطنا يبدأ منذ سماعنا لصافرة الصباح تدعو العساكر للتجمع فنخرج محتفيين بذلك،
مشاركين
الصبي/ أحمد إدريس
شعورياً ومشاهدين باستمتاع لحركات التدريب على الحواجز
"العُقْلة" والحبال المعلقة" والتسلق وتخطي حواجز النيران
المشتعلة والزحف تحت الأسلاك الشائكة. بل كنا نتمثل تلك الحركات فنلهوا بها في
أوقات فراغ الميدان من العساكر، يساعدنا في ذلك مرونة أجسادنا وحبنا لتلك المشاهد.
بل كنا نشارك العساكر في التدريب على عمليات "فض المظاهرات"، فكنا نشارك
بالتمثيل كمتظاهرين ونسعد جداً لحملنا بـ"النقالات" باعتبارنا أُغمي
علينا بفعل الغاز المسيل للدموع.
وعلى
صعيد آخر وفي تطور لاحق لحياة الصبا كان لنا فريق لكرة القدم يضم أبناء الحي نشارك
به في المباريات ضد فريق أبناء عساكر الجيش من جهة والفريق الآخر لأبناء قشلاق
الشرطة الواقع شرق الحي، وقد تميزتُ بمهارات فائقة في هذه الرياضة في صغري أثارت
إعجاب الكثيرين، لكنها لم تكن يومذاك بذات ما تلقاه
اليوم من اهتمام العامة والخاصة وتُمتَهن كما هي اليوم، وبالتحاقي بجامعة القاهرة
فرع الخرطوم فقد زهدت في الرياضة تلك.
وقد خصصت لنا في الحي الجديد قطعتان سكنيتان متجاورتان الواحدة منهما بسعة مئتي متر مربع، وكانتا تلي "قصر الشباب والأطفال" غرباً، وذلك تعويضاً عن دارنا الواسعة بالموردة، وكان من حقنا أن نعوض في "بانت" غرب التي كان التعويض بها بمساحة أربعمائة متر للقطعة باعتبارها درجة أولى، لأننا لم نكن نمتهن حرفة السمك أمثال جيراننا من أهل الموردة، لكن قدر الجوار ألحقنا بهم في التعويض. وقد عوِّض معظم "المحس" من "الموردة" في "بانت غرب" بمساحات تبلغ أربعمائة متر للقطعة، فقد كانت "بانت غرب" تعويضات أحياء "المقرن" في الخرطوم التي هُجِّرت لصالح إقامة حديقة الحيوانات أيام الاستعمار البريطاني.
ومن باب الطرفة فقد أطلق أبناء مسؤولي حكومة الرئيس عبود من الحي على فريقنا لكرة القدم – الذي تسمى بـ"النجم الأحمر" - لقب "فريق الثراء الحرام".
ما
ضم الحي من الشخصيات العامة الشيخ/ إبراهيم الكبَّاشي زوج "حجة النعمة" –
إحدى سيدات قبيلة "العقيلات"، وقد كان منزله "خلوةً" و"تكيَّةً"، ومجمعاً
اللواء أحمد عبد الوهاب نائب القائد العام
عامراً مشهوداً سيما في المناسبات الدينية، فتكتحل
الأعين وتمتع الأرواح بمشاهدة حلقات الذكر وأطايب
الأطعمة وأفخم أنواع السجاد والأواني التراثية، حيث تحتشد جموع "الكبابيش"
و"الهواوير".
ومن معالم الحي كذلك منزل السلطان/ جعفر علي دينار، الذي تزوره عِلْيَةُ القوم من أمثال مكي المَنَّا.
ولا نجد وجهاً للمقارنة بين الحياة المفعمة بالإثارة هذه في "بانت"، وتلك التي ألفناها من قبل في "الموردة" والتي حكمتها رتابة "الخلوة" في الصباح والمساء، مع قساوة العقوبة فيها والتي تشد وطأتها على الأطفال رهبة "الفَلَقَة". هذا لا ينقص قدر الخلوة في تأسيس الأطفال في تعليم الحروف ومهارة الكتابة والقراءة وجمال الخط فضلاً عن القدوة التي يمثلها شيخها الوقور،
فنأخذ عنه مع العلم تعلُّمَ الوقار والتوقيرَ لمرافق العلم والتدين، وأخذَ التدين ممارسةً وسلوكاً عن الشيخ.غير أن صلتنا بالموردة لم تنقطع وذلك بسبب اتصالنا بالسوق نقضي فيه أغراضنا التي لم تكن سوق بانت الصغيرة توفرها.
أسست أول مدرسة في بانت في منزلٍ مستأجر له "صالون"
كبير أقيمت فيه المدرسة الابتدائية الأولى قبل أن تبنى المدرسة الخاصة بالحي في "حي
أبو كدوك" – ذلك الحي الذي حمل اسم أحد قواد الثورة المهدية وهو الأمير/ حسن
بك أبو كدوك - ثم أنشأ مؤتمر الخريجين "مدرسة المؤتمر" بالحي بعد أن أشهر
"كرومر" رغبته في تحجيم التعليم في السودان إلا بالقدر الذي يتطلبه
دولاب العمل الحكومي، فأنشأ مؤتمر الخريجين المدارس الأهلية التي كان من بينها مدرسة المؤتمر
بالحي والتي كانت مهرجاناً ثقافياً دائماً يقصده مواطنو الحي
للتنوير الثقافي والفكري، وكان من إبرازاته الشعراء إبراهيم العبادي، وإسماعيل حسن.
الشاعر/ إبراهيم العبادي
وكان دار الوالد - كشأن غالب الدور القائمة بالعاصمة يومذاك - ملجأ الكثيرين من الأهل القادمين من الشمال، فكان المنزل مأوى الطلاب القادمين للدراسة لقضاء سنواتها بالعاصمة، وكان دارَ الإيواء لقاصدي العلاج في مشافي العاصمة يقضون معنا ما شاء الله لهم أن يقيموا، بل لم يكن عمدة بنارتي يومها - العمدة أحمد طه الملك - يفضِّل على دارنا فندقاً أو نُزلاً فيقيم معنا ما شاء الله له حتى يُبْرِم من أمر المشيخة مع مؤسسات الدولة المركزية وأعيانها ما يراه صالحاً لأهلنا. فعرفنا الأهل ومعدنهم وأخذنا من أعرافهم ما وصل انقطاعنا عن ديارنا الأولى.
ولذلك لم أجد وحشةً أو غربةً حينما جئتها منقولاً مديراً لشرطة الولاية الشمالية في النصف الثاني من تسعينيات القرن الماضي، بل عندما عرضت نفسي معرِّفاً بها بأني من "بلنارتي" احتفى بي الأهل حفاوة الغائب المنتظر.
لكن قدر الهجرة لم يتوقف على صعيد بيتنا على الانتشار
في شعاب بلاد الله الواسعة فحسب، بل هاجرت عن دارنا أرواحه في بواكير عهدي بها،
فقد انتقل الوالد رحمه الله تعالى وأنا على أعتاب 
العمدة/ أحمد طه الملك
السادسة من عمري، ثم تبعه من
يكبرني من إخوتي ولم يبلغ الحلم بعد، ثم تبعه أخي الذي يكبر أختيَّ ثم تبعتاهما وبقيت
بعدهم أمسح أشجان والدتي في عافيتي فإذا مرضت تألمت لمرضي وتفتأ تذكر أحزانها
وتشكو بثَّها وحزنها إلى الله.
بُنِي ذلك المنزل على الأشجان والمودة الغامرة والتحنان بكل ألوانه، فلم تكن لنا في ذلك البيت أمَّاً واحدة بل أمَّين، وكنا نرضي أمنا نفيسة صالح قبل أمنا التي ولدتنا – فاطمة -وقد كانتا دوحةً من المودة الموروثة عن أمهم التي أوصت عند مماتها بنتها فاطمة بأختها الصغرى نفيسة التي كانت يومها طفلةً تصغر أمنا بنحو خمس أو عشر سنين، فكنَّا نحن الوارثين لتلك الوصية المستحقة وكانت أُمُّنا نفيسة – التي لم تُرزق من الأبناء سوانا نحن أولاء فاطمة – الأمَ الثانية لنا عطفاً ومودةً، وكان زوجها نور الدين محمد نور الدين والدنا بعد وفاة أبينا. فكانت دعوتي في أدائي للعمرة أن يكون لي بنتان باسميهما؛ فاطمة ونفيسة وقد استجاب الله سبحانه وتعالى لدعوتي، فأحسست أنهن امتداد لوالداتي.
أُصِبتُ في صغري بالتهاب الزائدة، وكان ألمُها شاقاً عليَّ، فاصطحبني شقيقي محمد إلى طبيبٍ هو والد بعض طلابه، وهو استشاري باطنية متفرغ، يدعى عبد الفتاح، وكان معروفاً بمشاركاته الاجتماعية الواسعة برغم انشغالاته الكثيرة في تطبيب الناس، وقد رفض أخذ أتعابه في الكشف عليَّ بسبب صداقته لمحمد وتعليمه أبناءه، وقرر عمليةً مستعجلةً تتم بمستشفى أم درمان، إلا أن الطبيب المناوب في المستشفى – برغم تدني درجته الوظيفية - رفض العمل بقرار الاستشاري الدكتور عبد الفتاح بحجة أنه لا يعمل بمستشفى أم درمان، وقرر أن مرضي ليس بسبب الزائدة وأنه لن يسمح بإقامة العملية، وبسبب ذلك تركنا مستشفى أم درمان وتوجهنا إلى مستشفى الشعب بالخرطوم وذلك بعد أسبوع من المعاناة والألم الرهيب، فقد حادَثَ الوالد نور الدين أحد أقربائه من "مروارتي" ويدعى هرون، وكان يعمل حاجباً لدى العيادة الخاصة لأحد أكبر الجراحين واسمه أحمد عبد العزيز – الذي كان رئيس قسم الجراحة في مستشفى الشعب، والذي أجرى أول عملية جراحة قلب مفتوح في الخرطوم لمريض سعودي - فأدخلنا إلى الحوادث، وخضعت فيها لطبيب "امتيار" طيب المعشر من الأقباط، مازلت أذكر اسمه "زوسر"، الذي اكتشف بعد فتحه البطن التهاباً حاداً في الزائدة وأن إجراء العملية خطيرٌ بسبب التأخر في إجرائها، فقرر أن يعالج ذلك الالتهاب بالمضادات، وبذلك كُتب لي عمرٌ جديد، فتحجرت الزائدة بعدها، الأمر الذي أمهلني زمناً طويلاً تمكنت بعده من إجراء عملية استئصالها في القاهرة حيث كان محمد مبتعثاً من قِبَل وزارة التربية والتعليم لنيل درجة الماجستير.
ومما يثير أشجاني في هذه الذكرى المؤلمة ما رأيتُه من مشهد الوالد نور الدين - نعم الوالد رحمه الله – إذ كان يمارضني - فيبيتُ معي في مستشفى الشعب رافضاً وجود شقيقي محمد بسبب دراسته في الجامعة - فعندما رآني الوالد نور الدين على تلك الحال وأنا أتألم وظن أنِّي قد شارفت على الموت انهمرت دموعه شفقةً عليَّ. فما تزال صورة هيئته تلك تثير العاطفة فيَّ فأترحم عليه، سقى الله قبره شآبيب الرحمة والمغفرة. وكان عمنا عبد الحي يدير بوفيه بنك باركليز "فرع الجمهورية" فيغطي للوالد نور الدين أيام غيابه عن العمل، رحمهم الله تعالى رحمة واسعة وأسكنهم فسيح جناته.
وكانت الوالدة – رحمها الله تعالى - لا تستطيع دخول المستشفى نفسياً إثر مشهدٍ رأته في طفولتها - ما كان ينبغي لطفلٍ مشاهدته - فصدمها من دخول المستشفى حتى ولو أنها مرضت أو اطَّرحها بعضُ أهلها، فكانت أيام مكوثي بمستشفى الشعب تحوم حول سور المستشفى، وكنت - بعد أن عادت إليَّ بعض قواي - ألتقيها عند السور فتطمئن قليلاً، لكنها تغلبت على تخوفها ذلك فيما بعد بسبب طبيبٍ "جمهوري" – من أتباع الأستاذ/ محمود محمد طه - كان يحترمها ويوقرها، فبسببه ألفت المستشفى، وكانت ترافقني في زياراتها للمستشفى وتمازحني بالقول: إن الناس إذا رأوها قالوا "هذه العجوز مستمسكة بالحياة". وعقَّبت على ذلك بالقول إنها لن تزول متمسكةً بالحياة ما دمتُ أعزبَ، فلمَّا اصطحبتها في أداء العمرة الأخيرة لها قررتُ الزواج وابتعثت خلفاء عني يقومون بعقد قراني، فقالت إنها الآن تبدو مرحبةً بالموت سيما وأنها تتمنى موتها وقبرها بالبقيع، ولها ثقة في الله أن يستجيب لها في ذلك، وكأنما قوله تعالى: )واللهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا(
عامةٌ في شكوى كل مؤمنةٍ أو دعاءٍ لها ورغبةٍ و)إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِين(، فقد استجاب الله تعالى لرغبتها، فتوفيت رحمها الله في شهر شوال بعدما صامت أواخر رمضان في المدينة المنورة ودفنت بالبقيع في أبريل من العام 1994م.كانت للوالد نور الدين – رحمه الله تعالى - زوجةٌ أولى قبل أمِّنا نفيسة صالح، وهي ابنة عمه (مكية إبراهيم نور الدين) حيث أنجب منها ولدين توفيا في صغرهما الأمر الذي أمرض أمهم "مكية" بقية عمرها الذي قضته في بيت أبيها بـ"بنارتي" حتى وفاتها. ثم تزوج الوالد نور الدين من أمنا نفيسة زوجةً ثانيةً وأمضى معها أكثر من 20 سنة لم ينجبا الأمر الذي حدا بأمنا نفيسة أن أصرت على زوجها نور الدين أن يتزوج، فتزوج من السيدة/ فاطمة عبد الله الزبير وأنجب ستة أولاد وبنت، وهم أحمد والفاضل – اللذين توفيا في صغرهما – ثم عوض الله والفاتح وأكرم وباسل وشذى. وقد كان منزل الوالد نور الدين مأهولاً دوماً بأبناء أخوته وأبناء عمومته من "بنارتي"، منهم "علي دول" و"محمد سيد أحمد محمد نور الدين" الذي كانت أسرته تقيم بالحارة السادسة وهو يقيم بمنزل عمه نور الدين الذي يجاور منزلنا فنشأنا سوياً، إذ درسنا بـ"الخلوة" سوياً وتزاملنا بالمدارس في مرحلة التعليم العام وعملنا سوياً بـ"مؤسسة التعاون"، ثم التحقنا سوياً بجامعة القاهرة فرع الخرطوم، برغم أنه يصغرني بنحو عامين إلا أننا كنا أشبه بالتوأم في حياتنا، حتى أطلق علينا زملاؤنا بالجامعة يمازحوننا – لِما رأوْه من تلازمنا – اسم (مرغني المأمون وأحمد حسن جمعة) ذانكما المغنيان الشعبيان الشهيران في فترة الثمانينيات بأغنيتهم الوطنية (جدودنا زمان وصونا على الوطن)، لقد وجدت فيه أخاً شقيقاً عوضني ذلك البين الكبير بحكم فارق السن بيني وبين شقيقي الأكبر محمد، وفي كل فترات اغترابه - التي قضاها خارج السودان قاضياً بسلطنة عمان - كان يستهلُّ رسائلَه لي بعبارة "توأم روحي". أمدَّ الله في أيامه ومتعنا بعمره.
كانت الوالدة فاطمة – رحمها الله - تتوق لتعلم القراءة والكتابة، فقد كان التعليم على عهدهم هو التدبير المنزلي، وكانت معلمتهم في ذلك الشأن مصريةً لذلك
كان يؤانسها بعض أعمامنا في زياراتهم فقد كانت امرأة ناضجةً، متعددةَ المهاراتِ؛ "تُضَفِّرُ البِرْشَ" وتُفصِّل ملابسها للخياط، وتحرص وتوصي على سعاية برش الزواج وبرش الجنازة وكانت توصي بعدم اتخاذ "سراير - أَسِرَّةِ - الحديد" بسبب أنه لا يحمل الجنازة، فقد كانت الحياة والموت عندهم مقترنةً، فلا غفلةَ تجعلهم يحرصون على الدنيا. وكانت تسمع القرآن وتنزعج لضُعفِ "حجارة البطارية" فأجددها. تُقبل على الناس تراعي في ذلك مقاماتهم، وتقدُمُ على أهلها بتوازنٍ عجيب، كفعل الأنبياء في مساوات طبقات الناس في التعامل معهم.
كانت – رحمها الله - تتعهد واجباتي المنزلية فتعرف الخطأ وتسميها "الطيَّارات، كانت في ذلك تنوب عن أخي الأكبر محمد الذي كان مشغولاً جداً بعمله ويساهر له.
![]() |
| الخريج/ أحمد إدريس |
كانت تحرص على مشاهدة نشرة الأخبار – وتعرف أسماء المسؤولين العالميين، فكان أبناء عمومتها يمازحونها فيسألوها عن أسمائهم، فسألوها ذات يومٍ عن اسم وزير الخارجية الأمريكي فقالت: كسنجر. وتأخذ مخرجات النشرة الجوية بجدٍ، فتأمر بألا تُخرج الأسرة في فناء البيت إلا بعد نشرة الأخبار الجوية ومعرفة حالة الطقس.
كانت والداتي حريصتين على صلة الأرحام، فكانتا تذهبان راجلتين من "بانت" إلى "بيت المال" و"أَبْرُوْف" و"الملازمين" لزيارة الأهل الأمر الذي بورك لهما في رزقهما فما أصيبتا بأمراض العصر الخطيرة حتى فارقتا الحياة.
كان هذا بيتنا الذي شكل في وجدانياتنا عاطفةً موَّارةً وذكرياتٍ شجيةً وإيقاعاً للحياة نعمنا به دهراً حافلاً بالحياة التي تشعبت مناحيها في "أم درمان" و"الموردة" و"بانت شرق".
بعد إكمالي دراسة المرحلة الثانوية استوظفت بمؤسسة
التعاون بالدرجة (G) براتب قدره عشرون جنيهاً،
كنت أسهم في نفقات المنزل بعشر جنيهات وأقضي احتياجاتي بالعشرة الأخرى، فقد كنت
بذات الوقت أدرس القانون بجامعة القاهرة فرع الخرطوم في الفترة المسائية. وتعيين خريجي
المرحلة الثانوية بنجاح في الوظائف الحكومية هي سياسة ابتدعها الزعيم السياسي
الراحل الشريف حسين الهندي في فترة توليه وزارة المالية في حكومة محمد أحمد محجوب وحكومة
الصادق المهدي الأولى. وقد هدفت تلك السياسة إلى تخفيف عبء المعيشة عن كاهل
المواطنين وإكساب الخريجين خبرةً عمليةً عبر الاحتكاك بالموظفين العموميين، وحيث أن وزارة المالية هي
الوزارة الممتدة عبر كل الوزارات فقد سهل توظيف الخريجين
من الثانويين فيها بأعداد كبيرة، وكنا في عداد المستوعبين بإدارة المراجعة في مصلحة
التعاون على عهد السيد/ عثمان أبو القاسم الذي تولى وزارة التعاون والتنمية
الريفية. وقد سميت تلك السياسة في حينها بـ"بند العطالة"، لكن حكومة
الرئيس نميري اعتمدتها في أول عهدها. وقد أفادتني هذه التجربة كثيراً في حياتي
المهنية اللاحقة سيما في الإدارة المالية. .jpeg)
الشريف/ حسين الهندي







.jpeg)
