إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

السبت، 6 أبريل 2019

والتقى الجبلان .. الشيخ أبو إسحق الحويني والبروفسور بشّار عوّاد معروف


البروفسور بشَّار عوَّاد معروف
أبو إسحق الحويني
    











 أبو إسحاق حجازي محمد يوسف شريف الحُوَيْني (يونيو 1956م)، ونِسبته إلى قرية "حُوَيْن"، بمحافظة "كفر الشيخ" بمصر. قال عنه البروفسور بشَّار:( إنه يمثل النهضة العلمية المصرية في علم الحديث، التي مع الأسف الشديد أقول إنها تضاءلت في السنوات الأخيرة ولم تعد مصر تنجب أولئك العلماء. ولكن الحمد لله الذي جعل هذا العلم عند أبي إسحق وعند بعض الأخوة الآخرين).
      أ.د. أبو البُندار بشار عواد معروف العبيدي الأعظمي البغدادي، 1940م، قال عنه الشيخ الحويني:(هذا أحد أساطين المحققين بل إمام من أئمة المحققين، محققي التراث في هذا الزمان).
 كنَّا أيام الطلب في الجامعة نزهو بقولِ "جرير" ونَتَمَثَّلُهُ:
             وَابْنُ اللَّبُونِ إِذَا مَا لُزَّ فِي قَرَنٍ       لَمْ يَسْتَطِعْ صَوْلَةَ الْبُزْلِ الْقَنَاعِيسِ
ومعناه أن الجمل الحَدَثَ ابن العامين ونحوه الغِرَّ إذا جارى الكبير من البعير فحولةً ودهاءً وقوةً وفتوةً لم يَثْبُت أمَامَه.. لكنِّي بحقٍ لم أكُ أُدرك تصوراً لهذا المعنى الرهيب حتى حضرت هذه المسامرة بين هذين الجبلين. وكنتُ أحفظ من كلام شيخنا البروفسور/ أحمد علي الإمام تِرديدَه لكلام منسوبٍ لعمر بن الخطاب في القرآن الكريم يقول: (إني أحبُّ أن يقرأ هذا القرآن الفحول)، أو نحواً من هذا، فما وجدتُني أمام بعض "الفُحول" إلا مشهدي هذا. قال ابن نعيم في "حلية الأولياء":( قِيلَ لِسُفْيَانَ ـ وَذَكَرَ حَدِيثاًـ إِنَّ مَالِكًا يُخَالِفُكَ فِي إِسْنَادِ هَذَا الْحَدِيثِ. فَقَالَ سُفْيَانُ:" رَحِمَ اللَّهُ مَالِكاً مَا أَنَا مِنْ مَالِكٍ، إِلا كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ :
        وَابْنُ اللَّبُونِ إِذَا مَا لُزَّ فِي قَرَنٍ   لَمْ يَسْتَطِعْ صَوْلَةَ الْبُزْلِ الْقَنَاعِيسِ
ولقد أنتجت "قناة الندى" التلفزيونية في العام 2010م – 1436هـ، لقاءً جمع العالِمين الجليلين المُحدِّث المصري أبي إسحق الحُوَيْني، والبروفسور/ أبي بُنْدار بشَّار عوَّاد مَعروف، المؤرخ المحقق العراقي.. ولقد سَمُرا إلى نحو الساعتين وتزيد أمتِع بها من مسامرةٍ، جمعت العلم والتقوى والوعظ وأطايِبَ الحديث...
الشيخ البروفسور أحمد علي الإمام
وقد تناولت الزيارة محاور فكريةً ذات أبعادٍ حضارية، أصالةً ومعاصرةً، وعلميةً في أكثرِ من فنٍّ وشأنٍ، فكانت حقاً عبادةً وذكراً، فمن ذلك:
قضية التراث الإسلامي وتحقيقه وأهمية موقعه في الفكر الإسلامي، واتصال المستشرقين به، وتقييم عملهم فيه. وقد كانت هذه القضية هي محور الحديث في هذه الزيارة. وإن أفاضا فيها في الجزء الأخير من المسامرة، فبدأ الشيخ طالباً من ضيفه تقديم نصائح له ولطلبة العلم في عمل التحقيق لكتب التراث وقواعد التحقيق، وما العمل في حال كانت هنا: أكثر من نسخة للكتاب، فكيف تُعيِّنُ النسخةَ الأم؟ هل الأقدم أم الأحدث أم الأتقن؟ هل التي عليها خطوط الحُفَّظ والمحققين أو النُسخ الأخرى التي يمكن أن تكون أوضح مثلاً؟ وإذا اختلفت النُسخ كيف أُرجِّح؟  
وسأل الشيخ الحويني ضيفه عن تقييمه للمستشرقين في خدمة التراث الإسلامي، فقال البروفسور: المستشرقون أنواع ـ حتى لا نظلم أحداً ـ فيهم من كانوا يعملون في المخابرات، وفيهم من كان يعمل من أجل العلم، مثل الذي عمل "المعجم المفهرس لألفاظ الحديث النبوي، "فنسنك أرند جان"، أو "مفاتيح كنوز السنة" أو الألماني "أوجست فِشَر" حينما عمل مستدركات على المعجمات العربية، أو المستشرق "رينهارت دوزي" حينما عمل تكملة المعاجم العربية" في عشر مجلدات، أو "بروكلمان" لمَّا جمع المخطوطات .. الفرنسيون والبريطانيون معروفٌ عنهم النوايا الاستعمارية ولكن ليس كل المستشرقين منهم دفعته هذه الدوافع.. أما الألمان فكانوا أصدقاء للدولة العثمانية وكانوا يعتنون بالتراث والآثار خدمةً للمسلمين.. وهؤلاء المستشرقون ليسوا سواء فمنهم العلمانيون ومنهم اللادينيون ... هؤلاء المستشرقون فيهم علماء أجلاء، فمثلاً أستاذي الدكتور ستولا كان يعرف ستة عشر لغة .. يترجم من بعضها إلى بعض، جاء إلينا يدرسنا في بغداد فيلقي علينا المحاضرات تارةً بالإنجليزية وتارةً بالعربية وتارةً بالفارسية وتارةً بالتركية، حتى إن أستاذي أحمد ناجي القيسي يقول لي:(ما عنده لكنة بالفارسية). لكه كتاب رائع عن إيران في القرن الرابع الهجري، اسمه (إيران في ربيع الإسلام)، تداخل معه الشيخ قائلاً:(كانت إيران سنةً في ذلك الوقت)، فقال: نعم.
    خُلُقُ العلماء واختلافُ أمزجتهم ومناهجهم العلمية والبحثية، وآراء بعضهم في البعض، وأثر ذلك التنوع في إثراء العلوم الإسلامية، وسلوك تلامذة العلماء، وآثارهم العلمية، سيما في الظروف التي سادت في عصورهم من قلة الوسائل العلمية وندرة وسائل البحث في العصور السابقة. وعزا البروفسور سبب ضعف الإنتاج العلمي (للكثرة على حساب النوع)، وقال:( نحن في الدراسات العليا، في العراق في زماننا، كانوا يقبلون في القسم أربعة.. خمسة.. فقط.. يدرسون ماجستير في القسم خمسة). وقال:( كان كل واحد له أستاذ يقعد معه ليل نهار يشتغل معه، حتى يتعلم منه. فيتج هذا. وأذكر نحن كنا في دورة معينة أنا وأكرم ضياء العمري، وعماد الدين خليل، كلنا كليتنا تاريخ وتوجهنا توجهات أخرى، لكن البناء جيد)، وقال:( أنا مثلاً ناقشت الماجستير، جابولي اتنين مصريين، لأجل المناقشة، "حسن إبراهيم حسن" و"جمال الدين الشيال"، وأرسلت الرسالة إلى مُحكِّم خارجي، هو "سعيد عبد الفتاح عاشور" رحمة الله عليه، دامت المناقشة سبع ساعات، 3500 صفحة، "تكملة وفيات النقلة" كلها للإمام المنذري، والكتاب يقع في 500 صفحة فقط، وأنا كتبت كتاب "المنذري وكتابه التكملة" في أربعمائة صفحة في مقدمة الرسالة، وكان هذا الجزء الأول من الرسالة، الرسالة كانت في ثمانية مجلدات، استعملتُ فيها 170 مخطوطة، كان رئيس اللجنة هو رئيس الجامعة في وقتها أ.د. عبد العزيز دوري، "صالح أحمد العلي"، "جعفر خصباك" وهو المشرف، "حسن إبراهيم حسن"، و"جمال الدين الشيال"، خمسة يناقشون رسالة ماجستير، في العام 1967م بعد نكبة حزيران) .
وقد تفرع من ذلك تقييم المعاهد العلمية المعاصرة من مدارس وجامعات على ضوء دراساتهم وتدريسهم. قال البروفسور:( الذي جرى في الجامعات ـ مع الأسف ـ الذين يعملون في الجامعات كأساتذة، يبدأ يأخذ الماجستير ثم يأخذ الدكتوراة، ويعتقد أنه قد علم، هذه مشكلة كبيرة، حينما يعتقد أنه قد عَلِم فهو جاهلٌ لا شك في ذلك، ثم يترقى من مدرس إلى أستاذ مساعد إلى أستاذ، بعد أن يأخذ الأستاذية يتوقف عن العلم باعتبار أنه وصل إلى المرحلة القصوى. في الغرب ـ وهذه عيب من لم يدرس في الغرب أيضاً ـ  في الغرب يعتقدون أن رسائل الماجستير والدكتوراه هي أسوأ الأعمال التي قام بها الطالب، لأنها أعمال ابتدائية، هو يتعلم فيها. في الجامعات المحترمة يسألون الأستاذ: كم أنجزت من العلم بعد الأستاذية؟ ليس قبلها.
شرح البروفسور بشَّار عوَّاد حياته اليومية مع العلم منذ صلاته الصبح "مُسفراً"، ونومه ليلاً مبكراً، ويعمل من صباحه حتى العصر، فيُنتج من التأليف يومياً "مَلزمةً" (16) صفحةً، وهذا سرُّ الإنتاج العلمي الغزير له.
كانت جلسة تشريح لمناهج العلماء التاريخيين وتقييم جهودهم، والشيخ يسأل والبروفسور يرد:
"ابن حزم الظاهري"، ويقول فيه البروفسور:(وأنا الذي اكتشفته في الأخير أن هذا الرجل لم يكن ظاهرياً، أنا وجدتُ ـ وسأثبت ذلك إن شاء الله، لأنه كان يخالف في كثير من الأحيان "داوود"، يقول: "هذا خطأ، وليس عليه أصحابنا"، وكان يقول مثلاً: وهذا قول "الشافعي" و"أحمد" و"داوود" وبه نأخذ؟ أو يُخالفه في بعض الأحيان فيقول: وقال "داوود" كذا وهو خطأ!! وجاء ذلك في نحو 15 موضع. وأنا الذي توصلتُ إليه أن هذا الرجل لم يكن متمذهباً، كان يكره التمذهب، فهو يعمل على الأُثر، ولذلك لم أرَ له على الإطلاق كلاماً في "الإمام أحمد"). قال الشيخ الحويني معلقاً:( ربما يا أبا محمد أنه كان يرى رأي "ابن جرير" أن الإمام "أحمد" لم يكن من الفقهاء، ولذلك صنف "ابن جرير" كتابه "اختلاف الفقهاء" ولم يذكر فيه الإمام "أحمد").
الشيخ "أحمد شاكر" أبو الأشبال، ومنهجه في التحقيق، فقد حقق وأخرج لابن حزم ـ على قول البروفسور ـ كتاب "المُحلَّى" إلى حدِّ كتاب الزكاة، فذهبت بعد ذلك التعليقات المعهودة عن "أحمد شاكر" التي كان يرد أحياناً على "ابن حزم" في آرائه في الكتاب، فانعدمت هذه التعليقات بعد المجلد السادس أو السابع (خانه حفظه في هذا لطول العهد). وذكر عن الشيخ "أحمد شاكر" أسلوباً فريداً في التحقيق أنه كان (همُّه أن يُخرج نصاً صحيحاً يستفيد منه الناس وليس النص الذي كتبه المؤلف بالضرورة). وسأله الشيخ الحويني: هل لاحظت ذلك في تحقيقه لسنن الترمذي؟ فأجاب:( نعم .. مثلاً هو كان يعتقد أن هذا الحديث صحيح، فتأتي عنده نسخة متأخرة بدلاً من أن يقول هذا حديثٌ حسنٌ أو هذا حسنٌ صحيح فيقول: هذا حديثٌ صحيح فيقول: هذا حديثٌ صحيحٌ لأن الحديث الصحيح... هو لا يُراعي قول "الترمذي" ويحققه، هل قال "الترمذي" أن هذا الحديث صحيح أم لم يقل). (الميزان هو "المِزِّي" في سنن الترمذي ("تُحفةُ الإشراف" هي الميزان)، ونسخة "الكَرُوخي" من الموازين أيضاً)..("الكًرُوخي" هذا الرجل كان صنعته "الترمذي" كتب نُسخ من "الترمذي" حتى عجز، رجلٌ بغداديٌ معروفٌ).
من أقوالهم:
قال الشيخ الحويني مستهلاً:(ظاهرةُ نفخ الكتاب صارت ظاهرةً في معظم البلاد الإسلامية ... أحد المحققين حقّق كتاب "الكفاية في علوم الرواية" لم يعتنِ في هذا الكتاب إلا بتخريج الأحاديث، وتخريجٌ مطوَّلٌ جداً، في مجلدين أو ثلاثة، مع أن مادة الكتاب نفسها هي التي ينبغي أن تُخدم)..
قال البروفسور بشَّار:( ولذلك التراجم في بعض الأحيان غشَّاشة، فحوى التراجم والأسانيد في بعض الأحيان غشَّاشة، خذ مثال لذلك أسانيد الطبراني، من هي أسانيد الطبراني هي "فاطمة الجوزدانية" عن "ابن ريذة" عن "الطبراني"... فاطمة الجوزدانية كم كان عمرها حينما سمعت هذه المعاجم الثلاثة.. الكبير والأوسط والصغير؟ كان عمرها تسع سنين!! ماذا تفقه؟).. علَّق الشيخ الحويني بقوله:( سيضربون لك المثل بـ"الدَّبَرِي" عن "عبد الرَّزاق" و"اللؤلؤي" عن "أبي داوود" كانوا صغاراً!!).. فقال البروفسور:( أنا أقصد الفائدة) يعني بذلك استفادة السامع لهذه المؤلفات أو ما أضافه سماعه لها (مع وجود أصل الكتاب)، فعلاً فلا داعي لأن يُقال رواها فلان وإنما يُقال: قال "أبو داوود" أو "البخاري" أو "مسلم" مثلاً بدلاً من أن يُقال: روى فلان عن "أبي داوود" أو روى فلان عن "البخاري" وهكذا.. علَّق الشيخ الحويني كلاماً رائعاً، فقال:( ولذلك كبار العلماء لم يعتنوا بمسألة "الإجازة" في العصور المتأخرة)..
تصحيح المعلومة لم يَنَلْ من مكانة أيٍ منهم .. قال البروفسور:( راوي الطبقات الكبرى لـ"ابن سعد" هو "الحُسين بن فَهَم").. صحَّحه الشيخ الحويني بقوله:( "الحُسين بن فَهُم"، "الحُسين بن محمد بن فَهُم" هو أحد شيوخ "أبي عُوانَة"، لم أكن أعرف ضبط "فهم" حتى ظفرت بها في كتاب "تاريخ الخطيب")، قال: إن والد "فَهُم" حينما أتى لتسمية ولده عمد إلى المصحف وقال أيَّما اسمٍ وقع عليه نظري سميتُ به ولدي، (فكلما فتح قرأ )فهم لا يعلمون(، )فهم لا يفقهون(،)فهم لا يسمعون (، فقال: سمُّوه "فَهُم").
قال البروفسور:(أنا أنقدُ الآخرين، أنقدهم، لكن حين أنقدهم أذكرهم بالتعظيم والتبجيل ... أنا خالفت الشيخ "الألباني" في عشرات المواضع في "الترمذي"، لكن لم أذكر الشيخ الألباني إلا بـ"العلَّامة").
في أصول وقواع علم "التحقيق" قال البروفسور بشَّار:( حينما تتعارض روايات الكتاب لا يستطيع غير المختص الترجيح .. ونحن لا نقبل في الاختلاف بين النسخ عند الترجيح لرواية على أخرى إلا بالتعليل، لا بد من التعليل عند الترجيح، لا نكتفي كما يفعل المستشرقون (ب ج كذا) ثم يتركها ويمشي).. (ثانياً أنا أفضِّل في هذا العلم ـ التحقيق ـ أن يتعلمه على مُمارِس).. (هناك طريقة ثانية، وهي أن ينظر إلى عمل الغير، عمل كبار المحققين، كيف يتعاملون مع النصوص، كيف يعلقون عليها، ومتى يعلقون ومتى لا يعلقون).. ( التعليق له وجهان؛ تعليق لضبط النص، ويشمل تنظيم النص، ويشمل الإشارة إلى الموارد، ويشمل ضبط الأسماء، ضبط البلدان، بالرجوع إلى المصادر).. في تحقيقنا لكتاب "تهذيب الكمال" اهتمينا جداً بالتعليق بإضافة بكل ما قيل في جرح وتعديل الرواة لأنه موضوع الكتاب، (هذا ليس من التحقيق، هذه فائدة للمستفيد).. (التعليقات تُنبئ عن شخصية المحقق.. عن مدى علمه بهذا العلم)..
قال البروفسور:( والله مرات نحن في هذا العمر وفي هذه التجربة نقضي للكلمة الواحدة ساعتين وثلاث ساعات حتى نحلَّها.. نقرؤها قراءة صحيحة) ... قال "الجاحظ" في كتاب "الحيوان":( فربما أراد مؤلف الكتاب أن يُصلِح تصحيفاً، أو كلمةً ساقطةً، فيكون إنشاءُ عشر صفحات من حفظ اللفظ وشريف المعاني أيسرُ عليه من إتمام ذلك النقص حتى يرده إلى موضعه في اتصال الكلام .. قال ذلك في الصفحة 67 الجزء سبعة)، فضحك الشيخ فرحاً بذلك الحفظ لهذا الكلام الرائع.
ولم تغب السياسة في تلك الجلسة سيما والرجلان قد اعتركاها في دولتين تشابهتا في مزاجها السياسي الأميل إلى اليسار، والأشد على التديُّن في المسلمين، وإن كانتا من مراكز الحضارة الإسلامية، فجاء ذكر الرئيس "صدام حسين" رحمه الله، وقصة "جامعة صدام للعلوم الإسلامية" ولقائه بالشيخ/ محمد الغزالي" رحمه الله، وقد عمل البروفسور مستشاراً له يعينه في فهم التيارات الإسلامية ويكتب خطبه التي ربما أدخل فيها من الحديث والقرآن ما جعل "صدام حسين" يميل إلى الاهتمام بالثقافة الإسلامية سيما بعد "حرب العراق وإيران"، وسأل الشيخ عن سيرة "صدام حسين" الدموية؟ فأجاب البروفسور:(هذا شيء فيه مبالغة). وجاء ذكر "الهاشميين"، الأمير "علي بن نايف" والأمير "غازي" ملوك الأردن، وذكر تواضعهم واهتمامهم بالعلماء والعلم والتدين، واهتمامهم بتأديب أولادهم ليشبوا على أخلاق الملوك (أميرٌ يخاطبك يقول لك: سيدي!! بدلاً من أن تقول له أنت: سيدي!! هو يُجيبك سيدي!! لو قبلتَ يده مثلاً يُقبِّلُ يدك!! هذا لا يعمله هؤلاء رعاعُ الناس الذين يتسلقون على الحكم.. هؤلاء يُربُّون أبناءهم ليكونوا حكاماً ويسوسون الناس بالعدل والإحسان). وجاء ذكر الملك "فيصل الأول" ملك العراق و"جامعة آل البيت".
لم يغب ذكر العلماء المُحْدَثِيْن، لم أكن أعلم قبلُ أن "الثعالبي" منهم، وجاءوا على ذكر أصحاب المطابع المصرية في خمسينات وستينات القرن المنصرم "مصطفى البابي الحلبي" وأخوه "محمد".. وذكرُ المحققين "محمود شاكر" وموافقات مقترحاته في التحقيق لآراء "المِزِّي" في كتاب "الزبير بن بكار" و"نسب قريش"، والمحدِّث "أحمد شاكر" سيما في تحقيقه كتاب "الرسالة" للإمام الشافعي، و"أحمد راتب النفاخ" و"محمد بهجت الأثري"، و"مصطفى جواد"، والمحقق القدير"عبد السلام هرون" في تحقيق كتاب "الحيوان" للجاحظ.، وذكر "حسن إبراهيم حسن " و"عبد الفتاح عاشور" و"شوقي ضيف" و"أبو الفضل إبراهيم".
لم تغب الطرفة والملاحة عن هذه المسامرة، فقد حكى الشيخ عن "عبد الفتاح الحلو" أن طرفةً جرت بين "عبد السلام هرون" و"محمود شاكر"، وقد جرت بينهما مساجلة علمية فكتب الشيخ "محمود شاكر" في جريدة "المصادر" حينها عن تحقيق "عبد السلام هرون" لكتاب الحيوان فكان عنوان مقالته:(الحيوان .. عبد السلام هرون).
من أهم ملاحظات هذه النفحة من نفحات العمر، أمور:
·       الشيخ منسوبٌ إلى مدرسة "الحديث" في العلم و"السلفية" في الفقه والدعوة، والبروفسور منسوبٌ إلى التاريخ في العلم، و"التصوف" في الاتجاه، قال البروفسور في حضرة الشيخ:(نحن نحترم الناس، نقدر الناس، وأهل السنة ينبغي أن يعذُرَ بعضهم بعضاً، لا يُقال: إن هذا سلفي، وهذا صوفي، وهذا "ما أدري إيش"، وهذا أشعري. أنا لا أؤمن بهذه القضايا أبداً)، وعلّق الشيخ الحويني بقوله:( لكن مسألة المذهبية هذه قديمة جداً، شُفتِ "ابن مَنْده" والإمام الأصفهاني؟ ونحن برضو عندنا مشكلة: تصحيح العقائد، قضية طويلة جداً وتحتاج إلى تحرير). نعم الإفادة ونعم الإجادة ونعم أدب العلماء..  
·       على الرغم من مظاهر الحداثة البادية في شخصية البروفسور بشَّار ـ هندامه وحلاقة ذقنه وثقافته ـ إلا أن أصالته في اهتمامه بالتراث العربي وانتمائه الإسلامي بكل علمية ووعي لا تجعل بينه وبين الشيخ السلفي أي مسافةٍ فارقة.. كما لم يمنعه ذلك من الانتساب إلى مدرسة الحديث واتصافه بـ"المحدِّث".
العلم رَحِمٌ بينَ أهلِهِ

الجمعة، 5 أبريل 2019

والتقى الجبلان .. الشيخ أبو إسحق الحويني والبروفسور بشار عواد معلوف

الشيخ الحويني
  • الشيخ أبو إسحاق حجازي محمد يوسف شريف الحُوَيْني (يونيو 1956م)، ونِسبته إلى قرية "حُوَيْن"، بمحافظة "كفر الشيخ" بمصر. قال عنه البروفسور بشَّار:( إنه يمثل النهضة العلمية المصرية في علم الحديث، التي مع الأسف الشديد أقول إنها تضاءلت في السنوات الأخيرة ولم تعد مصر تنجب أولئك العلماء. ولكن الحمد لله الذي جعل هذا العلم عند أبي إسحق وعند بعض الأخوة الآخرين).
  • البروفسورأبو البُندار/ بشَّار عوَّاد معروف العبيدي الأعظُمي البغدادي ، 1940م، قال عنه الشيخ الحويني:(هذا أحد أسطين المحققين بل إمام من أئمة المحققين، محققي التراث في هذا الزمان).
    البروفسور أبو البُنْدَار





















كنا أيام الطلب في الجامعة نزهو بقول جرير ونتمثله:
وَابْنُ اللَّبُونِ إِذَا مَا لُزَّ فِي قَرَنٍ          لَمْ يَسْتَطِعْ صَوْلَةَ الْبُزْلِ الْقَنَاعِيسِ

ومعناه أن الجمل الحدث ابن العامين، ونحوه، الغِرَّ، إذا جارى الكبير من البعير فحولةً ودهاءً وقوةً وفتوةً لم يثبت أمامه.. لكنِّي بحقٍ لم أكُ أُدرك تصوراً لهذا المعنى الرهيب حتى حضرت هذه المسامرة بين هذين الجبلين. وكنتُ أحفظ من كلام شيخنا البروفسور/ أحمد علي الإمام ترداده لكلام منسوب لعمر بن الخطاب في القرآن الكريم يقول (إني أحبُّ أن يقرأ هذا القرآن الفحول)، أو نحواً من هذا، فما وجدتُني أمام بعض "الفُحول" إلا مشهدي هذا. قال ابن نعيم في "حلية الأولياء":( قِيلَ لِسُفْيَانَ ـ وَذَكَرَ حَدِيثاًـ إِنَّ مَالِكًا يُخَالِفُكَ فِي إِسْنَادِ هَذَا الْحَدِيثِ. فَقَالَ سُفْيَانُ:" رَحِمَ اللَّهُ مَالِكاً مَا أَنَا مِنْ مَالِكٍ، إِلا كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ :

وَابْنُ اللَّبُونِ إِذَا مَا لُزَّ فِي قَرَنٍ         لَمْ يَسْتَطِعْ صَوْلَةَ الْبُزْلِ الْقَنَاعِيسِ ") 
الشيخ البروفسور أحمد علي الإمام

ولقد أنتجت "قناة الندى" التلفزيونية في العام 2010م – 1436هـ، لقاءً جمع العالِمين الجليلين المصري أبي إسحق الحُوَيْني، والبروفسور/ أبي بُنْدار بشَّار عوَّاد مَعروف المؤرخ المحقق العراقي.. ولقد سَمُرا إلى نحو الساعتين وتزيد أمتِع بها من مسامرة، جمعت العلم والتقوى والوعظ وأطايب الحديث، وكانت بحقٍ كما وصفها الشيخ:( جلسة ً من جلسات العمر)...
بدأ الشيخ الحويني حديثه في فاتحة الزيارة مرحبا بضيفه في مصر، مزجياً في ذلك شجن العلماء في ظمإ المعرفة، شاكراً لضيفه تحقيقه كتاب "تهذيبُ الكَمَالِ في أسماء الرجال" إذ جمع في حاشية الكتاب كل ما في "تهذيب التهذيب" للحافظ ابن حجر العسقلاني في زياداته على "المِزِّي" صاحب "تهذيب الكمال"، كما جمع فيها ما في شروحٍ كثيرةٍ على الكتاب بما جعله يستغنى عن كثير من المراجع لعظيم صنع المحقق الذي جمع كل إفادات الشارحين والمعلقين في هذا التحقيق، فأنشأ ذلك علاقة روحية له ضيفه قبل أن يلقاه، ثم كتب الله عز وجل له لقاءً به في الأردن في زيارة للشيخ لها. ولا تكاد تسمع للشيخ حتى تسبح في شجن العلم وحلاوة المعرفة تشويقاً ماتعاً وسرداً رائعاً يأسرك حتى تصغى لحديثهما طيلة الزيارة التي استوعبها نحو الثلاث ساعات أو تزيد. 

وقد تناولت الزيارة محاور فكرية ذات أبعادٍ حضارية (أصالةً ومعاصرةً)، وعلمية (في أكثر من فنٍ وشأن)، فكانت حقاً عبادةً وذكراً، فمن ذلك:

-         قضية التراث الإسلامي وتحقيقه وأهمية موقعه في الفكر الإسلامي، واتصال المستشرقين به، وتقييم عملهم فيه. وقد كانت هذه القضية هي محور الحديث في هذه الزيارة. وإن أفاضا فيها في الجزء الأخير من المسامرة، فبدأ الشيخ طالباً من ضيفه تقديم نصائح له ولطلبة العلم في عمل التحقيق لكتب التراث وقواعد التحقيق، وما العمل في حال كانت هنا: أكثر من نسخة للكتاب، فكيف تُعيِّنُ النسخةَ الأم؟ هل الأقدم أم الأحدث أم الأتقن؟ هل التي عليها خطوط الحُفَّظ والمحققين أو النُسخ الأخرى التي يمكن أن تكون أوضح مثلاً؟ وإذا اختلفت النُسخ كيف أُرجِّح؟  

وسأل الشيخ الحويني ضيفه عن تقييمه للمستشرقين في خدمة التراث الإسلامي، فقال البروفسور: المستشرقون أنواع ـ حتى لا نظلمه أحداً ـ فيهم من كانوا يعملون في المخابرات، وفيهم من كان يعمل من أجل العلم، مثل الذي عمل "المعجم المفهرس لألفاظ الحديث النبوي، "فنسنك أرند جان"، أو "مفاتيح كنوز السنة" أو الألماني "أوجست فِشَر" حينما عمل مستدركات على المعاجمات العربية، أو المستشرق "رينهارت دوزي" حينما عمل تكملة المعاجم العربية" في عشر مجلدات، أو "بروكلمان" لمَّا جمع المخطوطات .. الفرنسيون والبريطانيون معروفٌ عنهم النوايا الاستعمارية ولكن ليس كل المستشرقين منهم دفعته هذه الدوافع.. أما الألمان فكانوا أصدقاء للدولة العثمانية وكانوا يعتنون بالتراث والآثار خدمةً للمسلمين.. وهؤلاء المستشرقون ليسوا سواء فمنهم العلمانيون ومنهم اللادينيون ... هؤلاء المستشرقون فيهم علماء أجلاء، فمثلاً أستاذي الدكتور ستولا كان يعرف ستة عشر لغة .. يترجم من بعضها إلى بعض، جاء إلينا يدرسنا في بغداد فيلقي علينا المحاضرات تارةً بالإنجليزية وتارةً بالعربية وتارةً بالفارسية وتارةً بالتركية، حتى إن أستاذي أحمد ناجي القيسي يقول لي:(ما عنده لكنة بالفارسية). لكه كتاب رائع عن إيران في القرن الرابع الهجري، اسمه (إيران في ربيع الإسلام)، تداخل معه الشيخ قائلاً:(كانت إيران سنةً في ذلك الوقت)،فقال: نعم.

-         خُلُقُ العلماء واختلافُ أمزجتهم ومناهجهم العلمية والبحثية، وآراءُ بعضهم في البعض، وأثر ذلك التنوع في إثراء العلوم الإسلامية، وسلوك تلامذة العلماء، وآثارهم العلمية، سيما في الظروف التي سادت في عصورهم من قلة الوسائل العلمية وندرة وسائل البحث في العصور السابقة. وعزا البروفسور سبب ضعف الإنتاج العلمي (للكثرة على حساب النوع)، وقال:( نحن في الدراسات العليا، في العراق في زماننا، كانوا يقبلون في القسم أربعة.. خمسة.. فقط.. يدرسون ماجستير في القسم خمسة). وقال:( كان كل واحد له أستاذ يقعد معه ليل نهار يشتغل معه، حتى يتعلم منه. فيتج هذا. وأذكر نحن كنا في دورة معينة أنا وأكرم ضياء العمري، وعماد الدين خليل، كلنا كليتنا تاريخ وتوجهنا توجهات أخرى، لكن البناء جيد)، وقال:( أنا مثلاً ناقشت الماجستير، جابولي اتنين مصريين، لأجل المناقشة، "حسن إبراهيم حسن" و"جمال الدين الشيال"، وأرسلت الرسالة إلى محكم خارجي هو "سعيد عبد الفتاح عاشور" رحمة الله عليه، دامت المناقشة سبع ساعات، 3500 صفحة، "تكملة وفيات النقلة" كلها للإمام المنذري، والكتاب يقع في 500 صفحة فقط، وأنا كتبت كتاب "المنذري وكتابه التكملة" في أربعمائة صفحة في مقدمة الرسالة، وكان هذا الجزء الأول من الرسالة، الرسالة كانت في ثمانية مجلدات، أستعملتُ فيها 170 مخطوطة، كان رئيس اللجنة هو رئيس الجامعة في وقتها أ.د. عبد العزيز دوري، "صالح أحمد العلي"، "جعفر خصباك" وهو المشرف، "حسن إبراهيم حسن"، و"جمال الدين الشيال"، خمسة يناقشون رسالة ماجستير، في العام 1967م بعد نكبة حزيران) .
بروكلمان

-         وقد تفرع من ذلك تقييم المعاهد العلمية المعاصرة من مدارس وجامعات على ضوء دراساتهم وتدريسهم. قال البروفسور:( الذي جرى في الجامعات ـ مع الأسف ـ الذين يعملون في الجامعات كأساتذة، يبدأ يأخذ الماجستير ثم يأخذ الدكتوراة، ويعتقد أنه قد علم، هذه مشكلة كبيرة، حينما يعتقد أنه قد عَلِم فهو جاهلٌ لا شك في ذلك، ثم يترقى من مدرس إلى أستاذ مساعد إلى أستاذ، بعد أن يأخذ الأستاذية يتوقف عن العلم باعتبار أنه وصل إلى المرحلة القصوى. في الغرب ـ وهذه عيب من لم يدرس في الغرب أيضاً ـ  في الغرب يعتقدون أن رسائل الماجستير والدكتوراه هي أسوأ الأعمال التي قام بها الطالب، لأنها أعمال ابتدائية، هو يتعلم فيها. في الجامعات المحترمة يسألون الأستاذ: كم أنجزت من العلم بعد الأستاذية؟ ليس قبلها.

-         شرح البروفسور بشَّار عوَّاد حياته اليومية مع العلم منذ صلاته الصبح "مُسفراً"، ونومه ليلاً مبكراً، ويعمل من صباحه حتى العصر، فيُنتج من التأليف يومياً "مَلزمةً" (16) صفحةً، وهذا سرُّ الإنتاج العلمي الغزير له.

-         كانت جلسة تشريح لمناهج العلماء التاريخيين وتقييم جهودهم، والشيخ يسأل والبروفسور يرد:

·       "ابن حزم الظاهري"، ويقول فيه البروفسور:(وأنا الذي اكتشفته في الأخير أن هذا الرجل لم يكن ظاهرياً، أنا وجدتُ ـ وسأثبت ذلك إن شاء الله، لأنه كان يخالف في كثير من الأحيان "داوود"، يقول: "هذا خطأ، وليس عليه أصحابنا"، وكان يقول مثلاً: وهذا قول "الشافعي" و"أحمد" و"داوود" وبه نأخذ؟ أو يُخالفه في بعض الأحيان فيقول: وقال "داوود" كذا وهو خطأ!! وجاء ذلك في نحو 15 موضع. وأنا الذي توصلتُ إليه أن هذا الرجل لم يكن متمذهباً، كان يكره التمذهب، فهو يعمل على الأُثر، ولذلك لم أرَ له على الإطلاق كلاماً في "الإمام أحمد"). قال الشيخ الحويني معلقاً:( ربما يا أبا محمد أنه كان يرى رأي "ابن جرير" أن الإمام "أحمد" لم يكن من الفقهاء، ولذلك صنف "ابن جرير" كتابه "اختلاف الفقهاء" ولم يذكر فيه الإمام "أحمد").

·       الشيخ "أحمد شاكر" أبو الأشبال، ومنهجه في التحقيق، فقد حقق وأخرج لابن حزم ـ على قول البروفسور ـ كتاب "المُحلَّى" إلى حدِّ كتاب الزكاة، فذهبت بعد ذلك التعليقات المعهودة عن "أحمد شاكر" التي كان يرد أحياناً على "ابن حزم" في آرائه في الكتاب، فانعدمت هذه التعليقات بعد المجلد السادس أو السابع (خانه حفظه في هذا لطول العهد). وذكر عن الشيخ "أحمد شاكر" أسلوباً فريداً في التحقيق أنه كان (همُّه أن يُخرج نصاً صحيحاً يستفيد منه الناس وليس النص الذي كتبه المؤلف بالضرورة). وسأله الشيخ الحويني: هل لاحظت ذلك في تحقيقه لسنن الترمذي؟ فأجاب:( نعم .. مثلاً هو كان يعتقد أن هذا الحديث صحيح، فتأتي عنده نسخة متأخرة بدلاً من أن يقول هذا حديثٌ حسنٌ أو هذا حسنٌ صحيح فيقول: هذا حديثٌ صحيح فيقول: هذا حديثٌ صحيحٌ لأن الحديث الصحيح... هو لا يُراعي قول "الترمذي" ويحققه، هل قال "الترمذي" أن هذا الحديث صحيح أم لم يقل). (الميزان هو "المِزِّي" في سنن الترمذي ("تُحفةُ الإشراف" هي الميزان)، ونسخة "الكَرُوخي" من الموازين أيضاً)..("الكًرُوخي" هذا الرجل كان صنعته "الترمذي" كتب نُسخ من "الترمذي" حتى عجز، رجلٌ بغداديٌ معروفٌ).
الشيخ أحمد شاكر أبو الأشبال

·       قال الشيخ الحويني مستهلاً:(ظاهرة نفخ الكتاب صار ظاهرةً في معظم البلاد الإسلامية ... أحد المحققين حقّق كتاب "الكفاية في علوم الرواية" لم يعتنِ في هذا الكتاب إلا بتخريج الأحاديث، وتخريجٌ مطوَّلٌ جداً، في مجلدين أو ثلاثة، مع أن مادة الكتاب نفسها هي التي ينبغي أن تُخدم)..

·       قال البروفسور بشَّار:( ولذلك التراجم في بعض الأحيان غشَّاشة، فحوى التراجم والأسانيد في بعض الأحيان غشَّاشة، خذ مثال لذلك أسانيد الطبراني، من هي أسانيد الطبراني؟ هي "فاطمة الجوزدانية" عن "ابن ربذة" عن "الطبراني"... فاطمة الجوزدانية كم كان عمرها حينما سمعت هذه المعاجم الثلاثة.. الكبير والأوسط والصغير؟ كان عمرها تسع سنين!! ماذا تفقه؟).. علَّق الشيخ الحويني بقوله:( سيضربون لك المثل بـ"الدَّبَرِي" عن "عبد الرَّزاق" و"اللؤلؤي" عن "أبي داوود" كانوا صغاراً!!).. فقال البروفسور:( أنا أقصد الفائدة) يعني بذلك استفادة السامع لهذه المؤلفات أو ما أضافه سماعه لها (مع وجود أصل الكتاب)، فعلاً فلا داعي لأن يُقال رواها فلان وإنما يُقال: قال "أبو داوود" أو "البخاري" أو "مسلم" مثلاً بدلاً من أن يُقال: روى فلان عن "أبي داوود" أو روى فلان عن "البخاري" وهكذا.. علَّق الشيخ الحويني كلاماً رائعاً، فقال:( ولذلك كبار العلماء لم يعتنوا بمسألة "الإجازة" في العصور المتأخرة)..

·       تصحيح المعلومة لم يَنَلْ من مكانة أيٍ منهم .. قال البروفسور:( راوي الطبقات الكبرى لـ"ابن سعد" هو "الحُسين بن فَهَم").. صحَّحه الشيخ الحويني بقوله:( "الحُسين بن فَهُم"، "الحُسين بن محمد بن فَهُم" هو أحد شيوخ "أبي عُوانَة"، لم أكن أعرف ضبط "فهم" حتى ظفرت بها في كتاب "تاريخ الخطيب")، قال: إن والد "فَهُم" حينما أتى لتسمية ولده عمد إلى المصحف وقال أيَّما اسمٍ وقع عليه نظري سميتُ به ولدي، (فكلما فتح قرأ )فهم لا يعلمون(، )فهم لا يفقهون(،)فهم لا يسمعون (، فقال: سمُّوه "فَهُم").

·       قال البروفسور:(أنا أنقدُ الآخرين، أنقدهم، لكن حين أنقدهم أذكرهم بالتعظيم والتبجيل ... أنا خالفت الشيخ "الألباني" في عشرات المواضع في "الترمذي"، لكن لم أذكر الشيخ الألباني إلا بـ"العلَّامة").

-         في أصول وقواع علم "التحقيق" قال البروفسور بشَّار:( حينما تتعارض روايات الكتاب لا يستطيع غير المختص الترجيح .. ونحن لا نقبل في الاختلاف بين النسخ عند الترجيح لرواية على أخرى إلا بالتعليل، لا بد من التعليل عند الترجيح، لا نكتفي كما يفعل المستشرقون (ب ج كذا) ثم يتركها ويمشي).. (ثانياً أنا أفضِّل في هذا العلم ـ التحقيق ـ أن يتعلمه على مُمارِس).. (هناك طريقة ثانية، وهي أن ينظر إلى عمل الغير، عمل كبار المحققين، كيف يتعاملون مع النصوص، كيف يعلقون عليها، ومتى يعلقون ومتى لا يعلقون).. ( التعليق له وجهان؛ تعليق لضبط النص، ويشمل تنظيم النص، ويشمل الإشارة إلى الموارد، ويشمل ضبط الأسماء، ضبط البلدان، بالرجوع إلى المصادر).. في تحقيقنا لكتاب "تهذيب الكمال" اهتمينا جداً بالتعليق بإضافة بكل ما قيل في جرح وتعديل الرواة لأنه موضوع الكتاب، (هذا ليس من التحقيق، هذه فائدة للمستفيد).. (التعليقات تُنبئ عن شخصية المحقق.. عن مدى علمه بهذا العلم)..

قال البروفسور:( والله مرات نحن في هذا العمر وفي هذه التجربة نقضي للكلمة الواحدة ساعتين وثلاث ساعات حتى نحلَّها.. نقرؤها قراءة صحيحة) ... قال "الجاحظ" في كتاب "الحيوان":( فربما أراد مؤلف الكتاب أن يُصلِح تصحيفاً، أو كلمةً ساقطةً، فيكون إنشاءُ عشر صفحات من حفظ اللفظ وشريف المعاني أيسرُ عليه من إتمام ذلك النقص حتى يرده إلى موضعه في اتصال الكلام .. قال ذلك في الصفحة 67 الجزء سبعة)، فضحك الشيخ فرحاً بذلك الحفظ لهذا الكلام الرائع.

-         ولم تغب السياسة في تلك الجلسة سيما والرجلان قد اعتركاها في دولتين تشابهتا في مزاجها السياسي الأميل إلى اليسار، والأشد على التديُّن في المسلمين، وإن كانتا من مراكز الحضارة الإسلامية، فجاء ذكر الرئيس "صدام حسين" رحمه الله، وقصة "جامعة صدام للعلوم الإسلامية" ولقائه بالشيخ/ محمد الغزالي" رحمه الله، وقد عمل البروفسور مستشاراً له يعينه في فهم التيارات الإسلامية ويكتب خطبه التي ربما أدخل فيها من الحديث والقرآن ما جعل "صدام حسين" يميل إلى الاهتمام بالثقافة الإسلامية سيما بعد "حرب العراق وإيران"، وسأل الشيخ عن سيرة "صدام حسين" الدموية؟ فأجاب البروفسور:(هذا شيء فيه مبالغة). وجاء ذكر "الهاشميين"، الأمير "علي بن نايف" والأمير "غازي" ملوك الأردن، وذكر تواضعهم واهتمامهم بالعلماء والعلم والتدين، واهتمامهم بتأديب أولادهم ليشبوا على أخلاق الملوك (أميرٌ يخاطبك يقول لك: سيدي!! بدلاً من أن تقول له أنت: سيدي!! هو يُجيبك سيدي!! لو قبلتَ يده مثلاً يُقبِّلُ يدك!! هذا لا يعمله هؤلاء رعاعُ الناس الذين يتسلقون على الحكم.. هؤلاء يُربُّون أبناءهم ليكونوا حكاماً ويسوسون الناس بالعدل والإحسان). وجاء ذكر الملك "فيصل الأول" ملك العراق و"جامعة آل البيت".

الرئيس الراحل صدام حسين

ملك الأردن عبد الله بن الحسين












-         لم يغب ذكر العلماء المُحدثين، لم أكن أعلم قبلُ أن "الثعالبي" منهم، وجاءوا على ذكر أصحاب المطابع المصرية في خمسينات وستينات القرن المنصرم "مصطفى البابي الحلبي" وأخوه "محمد".. وذكرُ المحققين "محمود شاكر" وموافقات مقترحاته في التحقيق لآراء "المِزِّي" في كتاب "الزبير بن بكار" و"نسب قريش"، والمحدِّث "أحمد شاكر" سيما في تحقيقه كتاب "الرسالة" للإمام الشافعي، و"أحمد راتب النفاخ" و"محمد بهجت الأثري"، و"مصطفى جواد"، والمحقق القدير"عبد السلام هرون" في تحقيق كتاب "الحيوان" للجاحظ.، وذكر "حسن إبراهيم حسن " و"عبد الفتاح عاشور" و"شوقي ضيف" و"أبو الفضل إبراهيم".

-         لم تغب الطرفة والملاحة عن هذه المسامرة، فقد حكى الشيخ عن "عبد الفتاح الحلو" أن طرفةً جرت بين "عبد السلام هرون" و"محمود شاكر"، وقد جرت بينهما مشاحنة، فكتب الشيخ "محمود شاكر" في قائمة المصادر لمقال حينها (الحيوان ...عبد السلام هرون)، يقصد كتاب "الحيوان"، تحقيق "عبد السلام هرون".
    وعندما حكي البروفسور عن فندق سيء الخدمة أقام فيه في مصر حتى سرح في جسده الهوام، فتندر الشيخ بقوله (هذه خدمة من الفندق).

من أهم ملاحظات هذه النفحة من نفحات العمر، أمور:

·       الشيخ منسوبٌ إلى مدرسة "الحديث" في العلم و"السلفية" في الفقه والدعوة، والبروفسور منسوبٌ إلى التاريخ في العلم، و"التصوف" في الاتجاه، قال البروفسور في حضرة الشيخ:(نحن نحترم الناس، نقدر الناس، وأهل السنة ينبغي أن يعذُرَ بعضهم بعضاً، لا يُقال: إن هذا سلفي، وهذا صوفي، وهذا "ما أدري إيش"، وهذا أشعري. أنا لا أؤمن بهذه القضايا أبداً)، وعلّق الشيخ الحويني بقوله:( لكن مسألة المذهبية هذه قديمة جداً، شُفتِ "ابن مَنْده" والإمام الأصفهاني؟ ونحن برضو عندنا مشكلة: تصحيح العقائد، قضية طويلة جداً وتحتاج إلى تحرير). نعم الإفادة ونعم الإجادة ونعم أدب العلماء..  

·       على الرغم من مظاهر الحداثة البادية في شخصية البروفسور بشَّار ـ هندامه وحلاقة ذهنه وثقافته ـ إلا أن أصالته في اهتمامه بالتراث العربي وانتمائه الإسلامي بكل علمية ووعي لا تجعل بينه وبين الشيخ السلفي أي مسافةٍ فارقة.. كما لم يمنعه ذلك من الانتساب إلى مدرسة الحديث واتصافه بـ"المحدِّث".

العلمُ رَحِمٌ بينَ أهلِهِ