إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

السبت، 9 يونيو 2018

الأستاذ الراحل/ محمد فتحي عبد الرؤوف ... لن تنساك "دنقلا"

كيف تنساك "دنقلا" وقد عرِفَتك باكراً معلِّماً نقابياً بوجهٍ ينضح بالعُرفِ على غير عادة النقابيين يومها، والذين تسربلوا بقولة الحكيم الزعيم الأزهري في سياسة الاستعمار: "سنرفضها وإنْ جاءت مُبرَّرأةً من كل عيب"...
كيف تنساك "دنقلا" وقد عرِفَك المعلمون في فجرها السحيق "موجِّهاً" قديراً، في "غير ضرَّاء مُضِرَّةٍ" وغير تفريطٍ مُخِل...
كيف تنساك "دنقلا" وقد كنتَ أحد أركانها السياسية الأولى ... قبِلَك من قبِل، أو رفضك من رفَض...
كيف تنساك "دنقلا" وأنت أحدُ بنيها ومن أعماق وأعراق أُسرها الكريمة "آل خوجلي"...
الأستاذ الراحل/ محمد فتحي عبد الرؤوف
          أول ما دعاني لتسطير هذه الكلمات هو تفقُّدي الذاكرة في شهر رمضان الكريم لِمَن لهم علينا من الفضل علماً وتربيةً وصُحْبةً، ممن أودى بذكرهم الزمان، فأذكرهم بالخير في هذا الشهر الفضيل..
كما إني خشيت أن تضيعَ من بين أيدينا ذكرى عطرةٌ من أنفاس هذا البلد الحبيب "دنقلا"...
وأخيراً أحببتُ أن أسجل بعض ذكرياتي مع هذا العَلَم المُعلِّم، وقد لمَحتُه وأنا تلميذٌ صغير في مدرسة "دنقلا الابتدائية المزدوجة" ـ الواقعة في "حي النصر" جوار "بيوت المديرية" أو "حي الموظفين"، وذلك في النصف الثاني من عقد السبعينات من القرن العشرين المنصرم ـ لمحتُه ورفيقَ دربه الأستاذ/ إسماعيل عبد الله خليفة ـ أمدَّ الله في أيامه ـ وهما يقومان بجولات التوجيه لمعلمي تلك المرحلة "الابتدائية"، وقد كان ـ رحمه الله تعالى ـ واسعَ الحركة، هادئَ المزاج، وقوراً، تبدو عليه سماتُ الوعي والجِدِّ والمثابرة.
كما أحببت بهذه الكلمات أن أذكر بعض أفضاله على بني جيلي ممن انتمى إلى مدرسة "الاتجاه الإسلامي" وهو فرع "الحركة الإسلامية السودانية" من الطلاب، وذلك في مرحلتي "المدارس المتوسطة" و"الثانويات" في باكورة عقد الثمانينات من القرن الماضي في مدينة "دنقلا"، ومَنْ دخلَ "دار الأرقم بن أبي الأرقم" الذي كانت دار الأستاذ الراحل تمثله لنا في مدينة دنقلا"، سيما لأخواننا القادمين من أطراف المدينة أو أقاصي "المديرية الشمالية" إلى حاضرتها يومذاك. فقد عرفتُ في هذا الدار ـ وأنا لم أتجاوز الخامسة عشر من عمري يومذاك ـ ثلةً من الطلاب كنت أنا أصغرهم سناً، لكني كنت ألتقيتهم من قبل بغير إدراكٍ لكُنهِ رابطتهم في حلقة التلاوة عقب صلاة المغرب بـ"مسجد عبد المتعال"، وذلك بعد أن يُؤدوا مِرانهم في كرة القدم في "ميدان المُوْلِد" جنوب المسجد ثم يدلفون يصلون المغرب ويجلسون في حلقة التلاوة بعدها يؤمهم فيها رجلٌ كهلٌ اسمه ".حوراني"، عرفت فيما بعد أنه كان يعمل بمستشفى "دنقلا" في مهنة مساعد طبي أشعة، وأنه كان "مسؤول الطلاب" بـ"الحركة الإسلامية" بمحافظة دنقلا، تعلمتُ معهم أولى أحكام التجويد من هذا الـ"حوراني"، وهي أحكام "اسم الجلالة" و"أحكام الراء" من "التفخيم والترقيق". وكان يكبر أولئك الشباب "عبد المنعم العميري"... دخلت دار الأستاذ/ محمد فتحي وعرفت فيه من شباب دنقلا هؤلاء النفر:
عبد المنعم العميري، الذي اشتُهر بالتدريب

عصام عبد الوهاب حسن سعد الدين
الفاتح حسن منصور
الصادق حسن منصور
طه محمد سعيد عبد المجيد
علي محمد سعيد عبد المجيد
أسعد محمد فتحي عبد الرؤوف
وفيما بعد زارنا في هذا الدار ـ وبعد قيام ثورة أبريل من العام 1985م ـ الطالب حينها بكلية الاقتصاد – جامعة الخرطوم (حسن محمد علي أبعوف السنهوري)، وكان حينها رقماً في الاتجاه الإسلامي بالجامعة، وقد تعلمت من صحبته في السياسة والاقتصاد والفكر أشياء مهمة...
تذكر الأجيال السابقة لنا للأستاذ مواقِفَه في الجهرِ بالحقِ والصَّدعِ بالأمر في وجه الطُغمةِ التي هيمنت على مؤسسة السياسة في عهد الرئيس الأسبق/ جعفر محمد نميري، وهي حزبه "الاتحاد الاشتراكي"، الذي ارتضت الحركة الإسلامية في تلك الأيام المشاركة فيه باعتباره الكيان الجامع للناس، فقد كان الحزب السياسي الأوحد المعترف به رسمياً من قِبل النظام الحاكم يومها "ثورة مايو". شارك الأستاذ في مؤسسات ذلك الحزب في فرعه بمدينة دنقلا، مشاركةً تميزت بالقول الصريح، وبالآراء الناقدة لكثيرٍ من السياسات، في وقتٍ تحرَّج فيه الكثيرون من القول الصريح، إما خوفاً على مناصبهم، أو حِرْصاً على مكاسبهم، أو ضُعفاً في شخصياتهم، فكان الأستاذ "للقوس باريها" وللكلمة فارسها، شجاعةً وعلماً وزعامةً.
أوَّل مواقفي المباشرة مع الأستاذ الراحل كان في تلك الليلة الشتوية التي استدعياني فيها هو والأستاذ المربي/ إسماعيل عبد الله خليفة، في دار "الجبهة الإسلامية القومية" بدنقلا، ليُحذِّراني من أي تحرك مُضادٍّ نقوم به نحن الطلاب لمنع إقامة حفل غنائي تحييه الفنانة "حنان بلوبلو"، التي دعاها يومها "حزب الأمة القومي" إلى مدينة دنقلا ـ أو هكذا سمعنا فاحتشدنا لمنعه ـ وكانت حُجَّتُهما أن "الجبهة الإسلامية" بدنقلا لن تنجرَّ وراء أعمالٍ استفزازيةٍ مقصودةٍ لتصرفهم عن الترتيب للانتخابات النيابية القادمة من العام 1986م أو 1987م. وكنتُ أيامها أقود زملائي بـ"مدرسة دنقلا الثانوية النموذجية بنين"، فقد كنتُ "الأمين العام" لاتحاد الطلاب بها في دورة 1986-1987م، على عهد مديرها يومذاك أستاذنا الجليل/ كامل حافظ الأمين، أمدَّ الله في أيامه. رجعت إلى زملائي في تلك الليلة وقد أخذوا مواقعهم واستعدوا لشيءٍ ما، فتغيَّرت نفوسهم لِمَا سمعوا منّي، لكنَّها "الطاعة" التي عرفناها وتعارفنا عليها. وكان من سبب ضيقهم أنَّ طلاب "الجبهة الديمقراطية" الذين كانوا يُناوئوننا يومها قد سمعوا بتحركاتنا وتوقعوا منا شيئاً، وكُنا من الحماسة على إصرارٍ أن نريهم من أمرنا شيئاً، ولكنها توجيهات قيادتنا يومها. رجعت من لقائي بالأستاذ محمد فتحي حاملاً صورة طيبةً بسبب حواره معي على نحوٍ ما عهدته في الأساتذة، فقد تكلم معي كأني زميله، بهدوءٍ وإقناعٍ ونقاشٍ كأنها فرصةٌ تدريبية.
الأستاذ/ إسماعيل عبد الله خليفة
وكان الأستاذ الراحل/ محمد فتحي عبد الرؤوف أحد أركان الحملات الانتخابية للـ"جبهة الإسلامية القومية" في دوائر الولاية الشمالية، وبالتحديد في "الدائرة (56) دنقلا" التي ترشَّح فيه د. أحمد علي الإمام، وفاز فيها. وكانت تلك الحملات بمثابة الملاحم التي ما شهد السودان في تلك الانتخابات مثلها، لأمرين: الأول احتدام التنافس بين "الجبهة الإسلامية القومية" و"حزب الأمة" وكان مرشحهم فيه الأستاذ الفاضل/ بدوي الخير إدريس، وقد كان أحد الإداريين المميّزين قبلُ، وأحد القيادات المجتمعية في "المديرية الشمالية" كذلك. والثاني أن الولاية الشمالية كانت من معاقل الحزبين الكبيرين في السودان من قبلُ سجالاً، "الحزب الوطني الاتحادي" وهو حزب الشريف الهندي، و"حزب الأمة القومي" وهو حزب السيد/ الصادق الصديق المهدي.
علمتُ فيما بعد أنَّ الأستاذ/ محمد فتحي عبد الرؤوف كان يقود تلك الحملة بحكم موقعه من قيادة تنظيم "الحركة الإسلامية" الداخلي، فقد كان الأمين العام للأخوان المسلمين في مدينة دنقلا، خلفاً للدكتور/ مصطفى ميرغني إدريس، الذي قادها في فترة حكم الرئيس النميري.
المرحوم/ د. مصطفى ميرغني إدريس
وقد كان اسم "الأخوان المسلمين" يُطلق أيام "الجبهة الإسلامية" على التنظيم الداخلي التي احتفظت به "الجبهة الإسلامية القومية" تكتيكاً وتحسُّباً لأي انقلابٍ محتَمل على فترة "الديمقراطية الثالثة" ـ هكذا وُصفت تلك الفترة التي تلت حكم "ثورة مايو" ـ واستمرَّ هذا التنظيم الداخلي الذي عُرف فيما بعد بـ"الكيان الخاص"، ثم بـ"الحركة الإسلامية" حتى حلَّه باجتهادٍ منه الشيخ الراحل/ حسن عبد الله الترابي، ثم أُعيد بمُسمَّى "الكيان الخاص" أو "الحركة الإسلامية" بعد أحداث "انشقاق الإسلاميين" إلى ما عُرف بـ"جماعة القصر" و"جماعة المنشية" في خواتيم عقد التسعينات من القرن المنصرم، وصار صنواً للحزب السياسي "المؤتمر الوطني".
كان من علاقتي المباشرة بالأستاذ الراحل/ محمد فتحي عبد الرؤوف أنه عُقيب قيام انقلاب (30 يونيو) باسم "ثورة الإنقاذ الوطني" في العام 1989م ـ وقد تفاجأت بها الأوساط الإسلامية في الولايات ومنها الإسلاميون في مدينة دنقلا، وتفاجأ بها الأستاذ الراحل/ محمد فتحي على الرغم من مشاركاته في اجتماعات "الكيان الخاص" كما أخبرني هو بنفسه ـ استدعاني ذات ضحىً وطلب مني السفر إلى الخرطوم لاستجلاء خبر "الانقلاب" ولم تمضِ عليه بضع أيامٍ، وأرشدني إلى أحد الأخوة من أبناء دارفور وهو الأخ/ جبريل النِّيل ـ الذي سمعتُ فيما بعد أنه انضمَّ إلى إحدى الحركات المسلحة التي ناهضت حكم "الإنقاذ" وكانت بقيادة الدكتور الراحل/ خليل إبراهيم ـ وكان يعمل حينها في إحدى المؤسسات التي تتخذ من رئاسة "بنك فيصل الإسلامي" في قلب الخرطوم مقراً لها. إلتقيتُه واستضافني في داره بإحدى أحياء "امتداد ناصر" وجال معي جولات في أيامٍ لنعرف سوياً كنه هذا "الانقلاب"، لكِنَّا كِدنا نيأس بسبب التعتيم الشديد لولا أن قيَّض الله لنا أخاً عزيزاً وهو الأخ/ هاشم بابكر، الذي كان في الماضي يزور "دنقلا" مبعوثاً شخصياً للشيخ/ إبراهيم السنوسي، وينزل معي في بيتنا كلما زارنا ... اصطحبني الأخ/ هاشم إلى بعض القيادات داخل سيارة أجرة في صبيحة جمعة فزودوني بتوجيهات المرحلة المقبلة ... جئت قافلاً إلى "دنقلا" لأجد الشيخ الراحل/ محمد فتحي بسجن دنقلا مع نفرٍ من السياسيين، فزرته في سجنه وأخبرته الخبر، فدهش لسرعة إعلام الشيوعيين الذين أخبروه في سجنه عن هوية "الانقلاب" ساخرين منه التمويه بصحبتهم في السجن.
ثم قيضت الأقدار لي أن نعمل سوياً في بعض المحاولات التصحيحية للممارسات التي كانت تتم من إخواننا الحاكمين في "الولاية الشمالية" في فاتحة سنوات العقد الأول من هذا القرن، ووجدنا في سبيل ذلك رهقاً شديداً وعداءً ما كان يخطر ببالنا أنا قد نواجه به، فصبرنا له حتى قضى الله "أمراً كان مفعولاً"، فقربتني تك التجربة به كثيراً وبرفيق دربه كذلك الشيخ الراحل/ عبد الحليم محمد أحمد الذي كان مثالاً آخر في الصراحة وقول الحق الذي يراه.
المرحوم الأستاذ/ عبد الحليم محمد أحمد
وفي نهار يومٍ مباركٍ وهو يوم الجمعة الثامن والعشرين من شهر نوفمبر من العام 2014م، فاضت روح الأستاذ/ محمد فتحي وهو يشارك في اجتماعات "الحركة الإسلامية" ممثلاً للولاية الشمالية التي كان "الأمين العام" للحركة فيها، وشُيِّعَ ودُفِن بمقابر "الشيخ منصور" بمدينة دنقلا...
رحمه الله تعالى وأجزل ثوابه فقد جاهد واجتهد، وكان مثالاً في أعمال الخير ذي سيرةٍ لن تنساها مدينة دنقلا ولا ربوع الولاية الشمالية ولن تنساها الأجيال التي عاصرته ولا الزمرة التي زاملته ... وهذه السطور جانبٌ من حياتي معه وعلى ضآلتها غير أنها مثَّلت لي الكثير وأفدت منها أكثر.

الجمعة، 1 يونيو 2018

الأستاذ الراحل/ مختار محمد بشير ... نقشٌ في خاطرٍ طيِّب


تطيب اللحظات بالذكريات كما تطيب الأيام بالعشرة الفاضلة .. هكذا عشنا دهراً في مدينة "دنقلا"، ( لنْ أسلُوَ اللحظاتِ والتأثيرَ). في تلك الأيام الحرة من فاتحة عقد الثمانينات من القرن الماضي عرفت أخي وصديقي/ أسامة مختار جمعني به "شارع بيتنا"، وهو يبتلِعُنا قادمينَ أو قافلينَ من مدرسة "النميري" المتوسطة، ووثَّق علاقتي به اهتمامُنا بالشعر والأدب، فهو تأخذه عبقرية أحمد شوقي الشعرية وأنا أتحيز لحافظ إبراهيم "ربيب دنقلا" والمولود في "السرايا" بها. كما ربطني به الشجو والغناء الشرقي، فهو مأخوذ بأم كلثوم، وأنا ميالٌ يومذاك لعبد الحليم حافظ، وكلانا يبكينا محمد وردي "كفى يا قلبي أنسى الفات وعيش من تاني وحداني .. ولو حنيت لعهد الريد أجيب من وين عمر تاني)، و(حلفتك يا قلبي .. الخانك تخونو .. والفايت غرامك، أوعك يوم تصونو).. أيامٌ وسنواتٌ بَنَتْ فينا وما هدمتْ، ومشت فينا بكل جميل، سُقيا لذلك العهد.

من خلال هذه الشخصية "أسامة"، وذِكري لها عند والدي، تسربت إليَّ منه سيرةُ الأستاذ الراحل/ مختار محمد بشير، فقد كان جانباً من شخصية والدي رحمه الله تعالى يهتم بحفاوةٍ بالغةٍ بكل من زامله في خلوة جدنا الأكبر/ علي الحاج سعيد أو من حفظ القرآن بها في عهود "المشايخ" من بعده أولاده "الفكي أحمد" و"الحاج سعيد" ـ الذي حفظ الراحل القرآن على يديه ـ رحمهم الله جميعاً، ففاض والدي في ذكر الأستاذ/ مختار محمد بشير، فهو من الذين حفظوا القرآن في تلك "الخلوة"، قبل أن ينتقل إلى معهد أم درمان ومنه إلى الأزهر الشريف..
الحاج سعيد أحمد شيخ الراحل 

تقرَّبتُ من ذلك الرجل من خلال زياراتي لصديقي أسامة، فصرت له صديقاً وخليلاً بقدر ما لي مع أسامة من ودٍّ وإخاء. وجدت فيه الجسارة في أعلى معانيها.. شهد الله أني على الرغم من انخراطي في القوات المسلحة السودانية يوم ذاك غير أني كنت أجد في الجلوس إليه من الحماسة ومعاني الجسارة وحبِّ الفتوة ما لم أتلقَ منه الكثير في معسكرات الجيش، فقد كان معظِّماً للدفاع عن الأوطان والهوية والانتماء...

من ذكريات أحاديثه عندي أنَّه ذكر لي أولَ مقابلةٍ له في الأزهر الشريف لمعاينة القبول به، فقال له الشيخ: اقرأ، فقرأ من مطلع سورة "طه" بإمالةٍ كبرى، وهي رواية ورشٍ عن نافع، فاستهجنها الشيخ، غير أن الأستاذ/ مختار انتهره وصاح في وجهه مستنكراً جهله بها روايةً.. فقدُ اختُص أهل شمال السودان يومذاك بقراءة القرآن وتعليمه برواية ورشٍ عن نافع، (ثم ضاع الأمس مني ... واطوت في القلب حسرة) فأضاعت الأجيال تلك الرواية الجميلة للقرآن.

وأشجى ما كنت أسمعه منه في زياراتي المتكررة له، حديثه المعظِّم لأهل قريتي "شيخ شريف" التي احتضَنَته، وأهلِ بيتِ "عابديل"، الذي مكث فيه سنوات دراسته بالخلوة، فقد كان لشيخ الخلوة الحق في إسكان الطلاب الفائضين عن سعة المساكن المُلْحقة بالخلوة في دُورِ أهالي القرية، وهم يسعدون بذلك عن طيب نفسٍ منهم، فكان منزل الأستاذ/ مختار مع آل "عابديل"، فكنت كلَّما زرتُه سألني عن أخبارهم وأحوالهم، كما أنه ما انقطع من زيارة الخلوة وزيارة آل "عابديل"، شأن "الحيران" الذين حفظوا القرآن في "الخلاوي".
الأستاذ الراحل/ مختار محمد بشير في شبابه

ولم تكن المدارسة للعلم بعيدةً عن أحاديثه، سيما وقد كنتُ في تلك الأيام طالباً في كلية "الشريعة" في جامعة القرآن الكريم والعلوم الإسلامية بأم درمان، فقد كان يُسائلني أحياناً عن إعراب بعض الكلمات في أبيات الشعر أو بعض القواعد والأحكام الفقهية ... وأحياناً بظُرفٍ شديد عن بعض الكلمات النوبية في لهجة ورطانة "الدناقلة"، فأعرف منها وأُنكر فيشرح لي غريبها ببهجة تبدو عليه، فقد حُبب إلينا معشر "الدناقلة" خصوصاً و"النوبة" عموماً كلَفُنا واهتمامُنا بلهجتنا "الرطانة".

وما خلت أحاديثه عن ذكريات دراسته في مصر، وزملائه في مرحلة الطلب، سيما من أعمامي أمثال "محمد الحاج سعيد" الملقب بـ"فقير"، فقد تزاملا في حفظ القرآن على يد والده، ثم تزاملا في معهد أم درمان وفي الأزهر الشريف، كما زامل في التدريس عمي الأستاذ الراحل/ أحمد عمر محمد بشير... وكانت لسيرة أحداث مصر في حقبة الأربعينات والخمسينات من العقد المنصرم شجواً وألقاً في الفؤاد، وذلك أننا كنا في السودان يومذاك نُكِنُّ لمصر عواطفَ في روابطَ شتى، الدين والتاريخ والعِرق والجوار.... أرى شيئاً من تلك العواطف قد تغير كثيراً..
الوالد (شيخ أبيض )مع العم الأستاذ
الراحل/ محمد الحاج سعيد

ومما طاب لي من هذه الذكرى هو تدلِّي الكبار في التعامل مع الصغار.. فقد كنت أشعر بالنِّدية ـ مع جزيل الاحترام ووافره ـ وهو يُحادِثُني ويُمازحُني فيزرع بذلك فيَّ ثقةً في النفس ما كنت لأجدها في المعاهد أو ميادين التدريب، ومثار عجبي أني كنتُ أحدث سناً من أخي أسامة ابنه الأكبر، لكنه كان يعاملني معاملة النديد، رحمه الله تعالى...

إن هذه السيرة المقتضبة لهذا العلم الذي نثرت السنوات عهودها بين دنقلا ومصر وأم درمان وقرىً (بين ذلك كثيرا)، ليمثِّل جيلاً أودى الزمان به في الآخِرين، فلا نكاد نجد لهم مثيلاً أو متمثِّلاً تلك السيرة بحق مِن بعدهم.. صبَّ الله عليهم شآبيب رحمتهم، ورفع درجتهم في المهديين، واخلفهم في عقبهم في الغابرين..

آمين آمين
                        دنقلا: منتصف رمضان 1439ه – الأول من يونيو 2018م