إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

الثلاثاء، 6 أكتوبر 2020

مربي الأجيال.. الأستاذ/ كمال جابر ... الإنسان العامر (3)

الأستاذ/ كمال جابر ... سيرةٌ وسريرة (2)

     تلقت المدارس المتوسطة في مدينة دنقلا في مفتتح السبعينات من القرن الماضي أستاذاً هُمَاماً تملؤُه الحيوية وتكسوه نضرةُ الشباب، سليمُ القَوام جميلُ المُحيا يَفتَرُّ عن عذوبةٍ في الحديث بكلتا لغاته التي تعرفها المدارس يومذاك؛ عربيةً فُصحى وإنجليزية طلِقة. جاء تعيين الأستاذ الراحل/ كمال جابر "مركزياً" بواسطة وزارة التربية والتعليم بالخرطوم، على عادة ونظام التعيين للتعليم في السودان يومذاك. ومراعاةً للظروف الأسرية للأستاذ ـ حيث توفِّيَ والده حديثاً وقد كان من كبار إداريي التعليم المعروفين ـ فقد تم تعيينه في موطنه دنقلا حتى يساعد في رعاية الأسرة المكلومة.

في ذلك الزمان كان يتمُّ تعيين معلَّم مرحلة المرحلة المتوسطة بدءاً في الدرجة "J"(= Junior مبتدئ) "الدرجة 14"، وذلك بناءً على حصولهم على مؤهل "شهادة المرحلة الثانوية". في مقابل ذلك يتم تعيين الجامعيين في التعليم بدءاً من الدرجة ""Q (Qualified = مؤهَّل) "الدرجة التاسعة". وبعد نحو الأربع سنوات من التدريب في المدارس يتم ابتعاث معلم المرحلة المتوسطة للتدريب الأساسي في "بخت الرضا" وذلك قبل أن تبدأ "معاهد التأهيل التربوي" في السبعينات.. بعد تخرجه من "بخت الرضا" وحصوله على مؤهل "دبلوم ينال المعلم الدرجة (H) "الدرجة العاشرة"، ويُطلق على المعلم بعدها وصف "Trained Master" ليقوم بتدريس المواد التي تخصص فيها في المعهد، وهي عادةً ما تكون ثلاث مواد (مادتين أساسيتين بالإضافة إلى مادة فرعية).  ثم بعد العمل لمدة سنتين على الأقل يترقى المعلم إلى الدرجة (G) " الدرجة الثامنة" ثم (DS Degree Seven) "الدرجة السابعة" ثم الدرجة B، ثم المجموعات "Group 6" ثم، "Group 5"، ثم Group 4"، ثم Group 3" ثم "الدرجة الثانية"، ثم "الدرجة الأولى". ومعرفة درجات الترقي ومؤهلاتها ومطلوباتها ولوائح الخدمة العامة ومنشورات التعليم السياسية والإدارية مما اشتهر به المعلمون يومذاك، بل هي من مطلوبات التأهل لشغل الوظائف الإدارية في المدارس من "ضابط المدرسة" و"وكيل المدرسة" و"مدير المدرسة"، وقد أخبرني أحد كبار المعلمين بالمعاش، وهو الأستاذ/ عبد العظيم عبد اللطيف محمد سليم عن ذلك العهد، أن المعلمين كانوا يتبارون في معرفة كل شؤون العمل الإداري ناهيك عن النبوغ في التخصص العلمي، فكان المعلم يُجيد كل شأن للمدرسة من لوائح الخدمة، ومن تصميم "جداول حصص الدروس" و"الأورنيك المرضي"، و"راجعة الطعام" لتسجيل التعاملات بين المدرسة والتجار متعهدي توريد غذاءات الطلاب في الداخليات، والتي يقوم المعلِّم بتصميمها لذلك الغرض وتُعتمد بواسطة مدير المدرسة ومسؤولي التعليم الأرفع. وقد كان الأستاذ الراحل/ كمال جابر رحمه الله تعالى من المشهود لهم بإتقان تلك الأمور، بل كل معلمي اللغة الإنجليزية يومذاك، لأن الحياة العملية كانت قريبة عهد بالتدوين الإنجليزي للوائح والضوابط والمعاملات فكانوا الأقدر على استيعابها والتعامل بها أكثر من غيرهم.

ولا بد في خضم سيرة الراحل/ كمال جابر وفي هذه الفترة بالتحديد التي ولج فيها رحمه الله تعالى سلك التعليم يكون لزاماً استجرار سيرة "الانقلابات التعليمية" في السودان. فقد تم تعيين البريطاني"جيمس كري"مديراً لمصلحة المعارف وناظراً لكلية غردون التذكارية سنة 1900 م، فأسس نواة النظام التعليمي الساري في السودان، إذ أقام النظام التعليمي على ثلاث مراحل، مدة كلٍ منها أربع سنوات، هي:الأولية ثم (الابتدائية أو الوسطى) ثم الثانوية. وأنشأ أولى المدارس على هذا النظام في العام 1900م، وأنشأ في هذا العام كذلك مدرسة تدريب المعلمين التي عُرفت باسم "مدرسة العرفاء"، (وكانت مدة الدراسة في بداية مدرسة العرفاء وفي بخت الرضا في سنواتها الأولى، أربع سنوات بعد إكمال المدرسة الأولية. ثم رفعت إلى خمس سنوات في 1940 م وإلى ست سنوات في 1944م). ثم جاءت ما عُرف بمذكرة مستر ج. س. سكوت“ 1932م ـ المفتش الأول للتعليم ـ منتقداً فيها سياسة التعليم ونُظمه، وداعياً إلى إجراء إصلاحات أساسية، وكان من أهم ثمارها هو تطوير "مدرسة العرفاء" بقيام "معهد بخت الرضا" لتدريب المعلمين على يد مستر (ف.ل.غريفيث Mr.Griffiths في العام 1934م.

واستمر هذا النظام التعليمي في المدارس حتى فترة السبعينات من القرن الماضي، وقد صار ذلك التاريخ من المواد الماتعة في التحليل والسرد والنقاش.

قاد اللواء/ طلعت فريد ـ وهو أحد أركان نظام ثورة 17 نوفمبر في السودان بقيادة الفريق/ إبراهيم عبود ـ بين عامي 1963-1964م تغييراً كبيراً في نظام التعليم الذي وُضع على عهد الاستعمار، ولا عجب فالسيد/ طلعت فريد خريج كلية غردون، فقاد ما سُمي يومها بـ(الثورة التعليمية) وذلك إبان توليه حقبة وزارة التعليم ـ بعد أن قام بتغيير اسمها من "وزارة المعارف" وتمَّ

اللواء/ طلعت فريد

فتح عدد كبير من المدارس الوسطى والثانوية في شتى بقاع السودان، كما أعيد تأهيل المدارس وتأثيث القائم منها في غير مباني بمباني ثابتة. ثم جاء الانقلاب الثاني في التعليم في عهد السيد الدكتور/ محي الدين صابر الذي صار وزيراً للتربية والتعليم (1969م – 1972م)، وهو صاحب عبارة "السُلَّم التعليمي" التي غدت فيما بعد شعاراً سياسياً وكُرَةً بين الحاكمين والمعارضين لكل نظام، (حيث أضاف عامين للتعليم الأساسي، وأعاد صياغة المناهج واهتم بالتعليم الفني وتوسع في عهده التعليم أفقياً ورأسياً). وقد (شهد السلم التعليمي في السودان عدة تغييراتٍ وتعديلاتٍ منذ بداية القرن العشرين. قُسمت المراحل الدراسية في التعليم العام إلى ثلاث، سميت الأولى منها “الأولية”، والثانية “الوسطى” ثم المرحلة “الثانوية” وكانت كل فترة من هذه المراحل تمتد لمدة أربعة أعوام. وفي 1970، خلال عهد حكومة الجنرال نميري (1969- 1985)، تم تغيير مراحل التعليم العام إلى: “المرحلة الابتدائيةوتمتد لست سنوات، وبعدها “المرحلة المتوسطة” لمدة ثلاث سنوات، ثم “المرحلة الثانوية” لمدة ثلاث سنوات أخرى.

الرئيس النميري يكرم د. صابر محي الدين

وفي عهد وزارة الأستاذ المحامي عبد الباسط سبدرات للتعليم في حكومة الرئيس السابق/عمر البشير "ثورة الإنقاذ" تم دمج المرحلتين الأولى والثانية في مرحلة واحدة سميت مرحلة “الأساس”، ومدتها ثمان سنوات، وتأتي بعدها المرحلة “الثانويةلمدة ثلاث سنوات، وبذلك نقص إجمالي سنوات التعليم العام من 12 عاماً إلى 11 عاماً، مضاف إليها فترة التعليم قبل المدرسي التي تمتد لعامين حسب ما ينص قانون تخطيط التعليم العام، ويفترض أن يقضيها الأطفال إما في الروضة أو الخلوة).

الأستاذ/ عبد الباسط صالح سبدرات

 وبالعودة إلى سيرة الراحل/ كمال جابر ـ والذي شهد كل تلك المراحل والانقلابات التعليمية طالباً ومعلماً ـ فقد تدرب الأستاذ المعلِّم/ كمال في بخت الرضا على مادتين أساس هما اللغة الإنجليزية واللغة العربية بالإضافة لمادة التاريخ. ولنستشف صورة التأهيل الذي كان يتلقاه المعلم في عصر أولئك العمالقة من المعلمين أسرد ما قصَّه عليَّ الأستاذ/ عبد العظيم عبد اللطيف من سيرة صلته وصداقته بالراحل الأستاذ/ عبد المنعم جابر (شقيق الأستاذ/ كمال)، في فترة التدريب إذ قال:( تزاملنا في فترة التدريب ضمن الدفعة (33) بـ"معهد معلمي للمرحلة الوسطى" ـ وهو الاسم الرسمي لمعهد بخت الرضا ـ حيث سكنَّا بغرفة واحدة واشتركنا في مجموعة اللغة الإنجليزية، فقد تخصصت في مواد المجموعة الأولى التي كانت تضم مواد (اللغة الإنجليزية والرياضيات والعلوم)، وتخصص هو في مادة (اللغة الإنجليزية) من المجموعة الأولى ومواد (اللغة العربية والتاريخ) من

الأستاذ/ عبد العظيم عبد اللطيف

المجموعة الثانية بالإضافة إلى اشتراكنا في مادة (التربية الرياضية) من مجموعة المناشط التي كانت تحوي بالإضافة إلى (التربية الرياضية) مواد (التربية الفنية والتربية الريفية)، وكانت مادة (الدراسات الإسلامية) إجبارية للجميع وكانت محاضراتها مرتين في الأسبوع ومن أطول محاضرات المعهد). إذن فقد تدرب الأستاذ الراحل/ كمال جابر على المناشط في فترة الإعداد ببخت الرضا، الأمر الذي يفسر اهتمامه بها، فقد صار هاوياً للعزف على آلة العود، بالإضافة إلى اهتمامه الرياضي والمسرحي الأمر الذي انعكس على أدائه التعليمي الذي صهر وسخَّر كل تلك المواهب والاهتمامات لتجعل في الاستماع إليه جاذبيةً وتأثراً 

كبيرين يدركهما كل من كانت له صلة بالراحل من الطلاب أمثالنا ومن الأصدقاء وما أكثرهم كما سنعرض لبعضهم بمشيئة الله تعالى.

ثم التحق الأستاذ الراحل/ كمال جابر بمعهد تدريس اللغة الإنجليزية Sudan English Language Teaching Institute والذي كان يُعرف اختصاراً بـ "سلتي" (SELTI)، وذلك قبل أن يُغيَّر اسمه إلى مركز السودان القومي لتعليم اللغات Sudan National Center for Languages والذي صار يُعرف اختصاراً باسم "سوناسل"، وكان قائماً يومذاك بمقر نادي العمال بالخرطوم ـ جنوب تقاطع "شارع السيد عبد الرحمن" مع "شارع القصر"، ونال شهادته " دبلوم معهد السودان لتدريس اللغة الإنجليزية" في العام 1981م.

عمل الراحل بعد ذلك وكيلاً بالمدارس المتوسطة ثم مديراً لـ "مدرسة النميري المتوسطة بنين"، والتي شهدناه بها ونحن تلاميذ بين عامي 1980م – 1985م، ولتلك الفترة عودةٌ وجولة فهي ليست بالتي يمرُّ عليها المرء في عجالة، ولسيرة الراحل فيها حضورٌ وريف.

الأستاذ/ كمال جابر

 ثم تمَّ ترشيح الأستاذ الراحل/ كمال جابر بواسطة الزائرين من متعاوني المجلس البريطاني مع المعهد للابتعاث إلى جامعة "لانكستر" بالمملكة المتحدة، ليتخصَّص بها في "الطريقة التواصلية لتدريس اللغة الإنجليزية" Communicative Teaching of English. ليعود منها بعد عامين من الدراسة في العام 1987م.

ثم التحق الأستاذ الراحل/ كمال جابر مدرِّباً بـ "معهد التأهيل التربوي" بمدينة دنقلا حيث تعرَّف فيه عن قُرب بالمعلِّمة ـ المتدرِّبة والقادمة إلى المعهد من إحدى المدارس المتوسطة بمدينة دنقلا ـ الأستاذة/ نعمات حسن محمد خير عشيري، المشهورة بـ "نعمات عشيري" والتي صارت زوجته لاحقاً، ولا بد كذلك من العودة لها في شيء من الحديث، فالأستاذة نعمات إحدى قياديات التعليم في الولاية الشمالية وذات سيرة شجيَّةٍ في حياتها مع الأستاذ الراحل زوجةً، ومع مدراء للمدارس المتوسطة في دنقلا وغير ذلك.

الأستاذة/ نعمات عشيري

تم انتداب الأستاذ الراحل/ كمال جابر للعمل بجمهورية اليمن في العام 1992م، وتزامن دخوله إليها مع قيام "حرب الوحدة اليمنية" بين شطري اليمن. نزل الراحل مدينة "المحويت" التي تبعد نحو 111 كلم عن العاصمة صنعاء. وكانت المدينة تضم عدداً من الأسر السودانية فاقت العشرين أسرةً عاشت بترابط بينها، وقد سكنت هذه الأسر على امتداد شارعٍ في المدينة سماه اليمنيون "شارع الخرطوم" لذلك.

رجع الأستاذ الراحل من اليمن ليكون موجهاً تربوياً بمدارس "وحدة دنقلا – محلية دنقلا" في العام 2003م، ثم محاضراً متعاوناً بـ "مركز السودان للغات" (سوناسل) بمدينة دنقلا.

حفلت حياة الراحل العملية بالكثير من القضايا والأمور التي تستدعي تسليط الضوء عليها بكثير من التحليل والوقوف على تفاصيلها للفائدة.