إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

الاثنين، 5 ديسمبر 2022


         كمال جابر ... المعلم ﴿الَّذِيْ وَفَّىْ﴾

أختم سلسة مقالاتي هذه بهذا التعبير أستعيره من القرآن فيمن أدى رسالته على وجهٍ هو الأكمل ﴿الذي وفَّىْ. وقد أطلق القرآن هذا التعبير على رجلٍ وصفه بالأُمَّةِ ﴿إِنَّ إِبْرَاهِيْمَ كانَ أُمَّةً جامعاً لخصالِ

أُمَّةٍ خَيِّرَةٍ.. فاستعرت ذلكم التعبيرَ لأُستاذيَ الذي وفّى رسالته في التربية والتعليم على نحوٍ إنساني كان جديراً باستيقاف الناس عنده لعلَّ فيه قبسٌ أو هدىً..

أذكر هذا وبلادنا تعيش مراجعات سياسات عهد حكم (ثورة الإنقاذ الوطني) في التعليم باستعادة "المرحلة المتوسطة" في السلم التعليمي، ولكني أحسب أنه من الخطأ أن نَكِلَ النجاح الكبير في إعداد الإنسان السوداني الذي تم من خلال السلم التعليمي السوداني النميري في مرحلته "المتوسطة" لتلك المدارس فيُعاد إيجادها على الطريقة التي تجري الآن، ولكن الحق أن نعود بالفضل لذلك المعلم الذي وفّى وبذل ما وسعه بذله وتفانى حتى أبدع في أجيال حفظت ذاكرتها لتلك المرحلة ألواناً من الإبداع وأنواعاً من الروائع الأكاديمية والفكرية والثقافية والرياضية والإعلامية تحت هندسة وإِعدادِ وإخراج ذلكم النفر من معلمي بخت الرضا ومعاهد إعداد المعلمين قبل أن تُوأَدَ ولا سائل لها ﴿بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ.. وأرى أن الذي ساق لتلك الجناية التربوية هو انعدام الفهم عند الساسة لفلسفة المراحل التعليمية والمؤهلات الأكاديمية وأدوارها... فاستعاضوا عن معاهد التأهيل التربوي بكليات التربية.

ولو فقهوا أدوار كلٍ ما استبدلوا تلك بهذي لاختلاف الأدوار والوظائف، فالمعاهد تقوم بالتأهيل الوظيفي وتُعطي شهادات الدبلوم للتأهيل المهني، ولذلك عادةً ما تقل فترات الدراسة فيها، وتبدأ مباشرةً بمواد التخصص، وتعتمد التدريب العملي أساساً في الدراسة. أما الكليات الأكاديمية في تهدف بالأساس لإعداد الطلاب للتخصص في فلسفة العلوم بالدرجة الأولى، ولذلك هي تبدأ بالعلوم العامة قبل التخصص وتقوم الدراسة فيها على مناهج البحث العلمي ويُعد الدارس لاستخدام مناهج البحث العلمي في إنتاج المعرفة وإن كان ذلك على حساب الأداء العملي، ولذلك فقد تجد خريج المعهد الفني أجود حرفةً من حامل البكالوريوس في التخصصات الفنية، فلا عجب أن تجد مثلاً "المساعد الطبي" أجود من الطبيب في خياطة الجروح أو الحقن ونحوها. وقد تجد "المفتش الزراعي" أمهر من خريج البكالوريوس الزراعي في تقليم الزرع أو تهجين بعض أنواع الفواكه ونحوها.

وقد أُعِدَّ المعلمُ للمرحلة المتوسطة في معاهد إعداد المعلمين على نحوٍ أحبوا به مهنتهم وأجادوا التدريس فيها فأوقعوا في نفوس تلاميذها أثراً عميقاً وكبيراً صحبهم في مستقبلهم وما محت الحياة الجامعية من ذلك أثراً ولا حلَّت متعتُها مكان ذكريات المرحلة المتوسطة وأثرِ معلميها في نفوسهم.

لقد كان لأجيالنا من الذين قضوا المرحلة المتوسطة بين سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي الحظ الأوفر من آثار المعلمين الرساليين والمتجردين لمهنة التعليم، الذين صقلوا الشخصيات بماء الحياة فخرجت تلك الأجيال للحياة إضافة حقة وإن لم يكملوا مسيرة تعليمهم في المراحل العليا والجامعية، وكل ذلك بفضل التدريب والإعداد الجيد لذلك المعلم الوفي.

كان الأستاذ كمال جابر رحمه الله تعالى واحداً من أولئك المعلمين الرساليين الذين قصدوا أن يتركوا في نفوس الأجيال آثاراً تبقى. كان من خُلُقه الصمت إلا بقَدّر، والتعبير عن عدم الرضا بأثرِ نفسي ينتقل إليك بطريقة غريبة، ولذلك لم نعرف عنه استعمال الضرب في التدريس عادةً، ولكنَّ ضربه بالكلام كان أقسى


لِمَن كان له قلب..

كان رحمه الله تعالى شخصيةً تملؤها الهيبة والوقار والصمت المعبِّر، غير عابسٍ ولا مكفهر، مع كونه ذا شخصيةٍ أقرب للمزاج الرافض.

لقد كانت مشاركته التلاميذ في أنشطتهم واهتماماتهم أقوى الوسائل التعليمية للأستاذ الراحل كمال جابر، فتجده في ملاعب الكرة مشاركاً لتلاميذه حتى إذا غضب الواحد منهم ورفض قرار الحكم فلا تجده يتدخل بسلطة المعلم أبداً، وقد شهدتُ موقفاً من ذلك أن أصرَّ أحد التلاميذ في رفض ركلة جزاء احتُسبت ضده حتى ألغى الحكم المباراة فلم يتدخل الأستاذ الراحل في الأمر حفاظاً على الجو العام أو تقديراً قدَّره هو.

ومن أساليبه أنه كان يُقدر للتلاميذ الضعفاء أكاديمياً جوانبهم الأخرى التي لهم فيها إسهام مثل المواهب من التمثيل والرياضة والخط الجميل أو الهمة والنشاط في خدمة المدرسة أو حتى روح الدعابة التي قد تكون في البعض منهم.

كان رحمه الله تعالى معلِّماً للغة الإنجليزية ولكنّ اتقانه لتعليمنا الرُشدَ في الحياة فاق أثره فينا فطبع في شخوصنا تقديره وإكباره.

لقد كانت هذه الشخصية صورةً لمثيلاتها من شخصيات المعلمين المتفردة التي أنتجت من الناس ألواناً لكلٍ دوره في الحياة بقدر ما اغترف من معين أولئك المعلمين، ولو تناولنا كل واحدٍ منهم بسلسةٍ من المقالات ما أوفيناهم حقهم من التقدير.. رحمهم الله جميعاً أحياءً وأمواتاً.