إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

الخميس، 16 نوفمبر 2023

 


ذكريات الأستاذ/ 

عمر عبد العزيز
         و

بدايات التعليم النظامي

   في مدينة دنقلا 
      (4)


انتدبت للعمل بمعهد التأهيل التربوي ورافقني فيه من دنقلا الأستاذ/ صابر الشيخ الأخ غير الشقيق للأستاذ فؤاد الشيخ، فتخرج علينا دفعتان من المعلمين فاستقرت بذلك فكرة التأهيل التربوي. ثم انتدبت للعمل بسلطنة عمان لعامٍ واحدٍ عدت بعدها لمدينة دنقلا، وكانت الدفعات من الطلاب التي أثارت المشاكل سابقاً قد تخرجت فآثرت العودة للعمل بمدرسة دنقلا الثانوية مرةً أخرى.

لقد أتحفني الزمان هذه المرة في مدرسة دنقلا الثانوية بالعمل مع المدير الفاضل طيب الذكر الأستاذ/ عبد الرحيم محي الدين (من قرية شيخ شريف) في العام الدراسي 1979م-1980م، إذ انخرطت في العمل بالمدرسة منذ شهر سبتمبر وقبل نهاية إجازتي لأجد رجلاً من ألطف من عملتُ معهم من الأساتذة المحترمين، كان رجلاً منظماً، "أخو إخوان"، خلق للمدرسين في عهده مجتمعاً وبيئةً مدرسيةً حرص فيها الأساتذة على الانضباط التام تقديراً له، وفي عهده عادت المدرسة بشيءٍ من ماضيها في الانتظام ودخول عددٍ من الطلاب النابهين الكليات العلمية والأدبية الأولى، فمن هؤلاء

د. عبد الفتاح العميري

الطلاب الذين امتحنوا للشهادة السودانية من أبناء دنقلا الأطباء عبد الفتاح العميري وميسرة فاروق سعيد عطية وصلاح كمال الحميدي وكمال هاشم والمهندس/ محمود محمد سلامة والمهندس/ عبد المنعم صابر إبراهيم علي، ومن القسم الأدبي ستة طلاب أو سبعة منهم حسن محمد علي أبعوف. وقد عملت مع المدير/ عبد الرحيم محي الدين ذات الأعمال الإدارية لوكيل المدرسة التي توليتها من قبل بالمدرسة بجانب جداول الحصص في الصف الثالث، فتوليت له حسابات "العون الذاتي"، وهي فصول القبول الخاص التي يقوم طلابها بدفع رسوم دراسية إضافية تعين المدرسة في تسيير مهامها لكنها تظهر في الحسابات الحكومية الرسمية.

وفي العام الدراسي 1979م-1980م كان الأستاذ/ عثمان محجوب – رحمه الله تعالى من مروي  أباً - مشرفاً – على أحد فصول المدرس – فصل المتنبئ - فاستلم أموالاً من الطلاب وقام بتوريدها لمحاسب المدرسة إلا أنه لم يستلم إيصالاً بالمبلغ ولم يظهر المبلغ في بيانات المحاسب عن ذلك العام، وأنكر المحاسب المبلغ، فاستشارني أستاذ/ عبد الرحيم فيما يمكن التصرف به حيال هذا الموقف، فقلت له: إنه لا يجدر بنا أن نتصرف بتغطية المبلغ ببيانات وهمية نثبتها بفواتير غير واقعية – وإن كان بمقدوري أن أدخل سوق "نقلا" وأجمع منه فواتير تغطي ذلك المبلغ – ولكن الأجدر أن نكتب تقريراً يوضح الأمر ونرفقه مع القوائم المالية للمراجعين، فإن أصر المسؤولون على أن نتحمل دفع المبلغ غرامةً فلنفعل. وقد كان ما أشرت به على المدير فقُبِل التقرير ومضى الأمر بسلام.

وفي العام 1980م جاءت فكرة إقامة "معهد التأهيل التربوي" لمعلمي المرحلة المتوسطة. وكان قد ابتدر تنفيذ الفكرة زميلنا سابقاً في مدرسة دنقلا الأهلية ثم في معهد "بخت الرضا" وهو الأستاذ/ حسن علي عبيدي – من أبناء مدينة "عبري" في السكوت وشغل سكرتير امتحانات السودان – وكان مديراً لمعد التأهيل التربوي، فكانت خطته تقوم على فتح معهدين للتأهيل التربوي لتدريب معلمي

أ. حسن عبيدي

المرحلة المتوسطة، أحدهما في "بورتسودان" وآخر في "سنار" غير أن المعهدين فشلا في العمل بسبب معرضة نقابات المعلمين لفكرة التأهيل التربوي، فوسَّط الأستاذ/ حسن عبيدي الأستاذ/ محمود أحمد مصطفى للحديث معي في شأن تولي فتح معهد التأهيل التربوي للمرحلة المتوسطة في دنقلا، فاعتذرت للأستاذ/ حسن بحجة أن محاولة فتح المعهد في العام 1976م في كريمة لم تنجح، فترجاني لتولي المهمة، فوافقت له. وكان الأستاذ/ حسن عبيدي زميلي سابقاً في "بخت الرضا" ثم عملنا معاً في معهد التأهيل "الرئاسة" ثم في مدرسة دنقلا الثانوية إبان فترة إدارة الأستاذ الراحل/ عمر الصديق لها، وعلى الرغم من كون الأستاذ المرحوم/ حسن عبيدي كان شيوعياً نشطاً في مدرسة دنقلا في تجنيد طلاب المدرسة وتنظيمهم غير أنه مع ذلك كان رجلاً محترماً بمعنى الكلمة.

ولمَّا علم الأستاذ/ عبد الرحيم محي الدين بما عرضه عليَّ أستاذ/ حسن عبيدي وأني كنت قد تمنعتُ، قال لي: "إنْتَ لَوْ مَا عَايِزْ تَمْشِي أَنَا مَا بَفِكَّكْ"، فأكبرتُ ذلك منه ووعدته أني لن أتنازل عن تدريس جدولي لحصص الأدب الإنجليزي بالمدرسة، وأني سوف

أ. ساتي علي الحاج

أشارك الأستاذ الذي يتولى وضع جدول الحصص لأضع جدول حصصي بما يتوافق مع عملي بالمعهد. أما المدير السابق الأستاذ/ ساتي علي الحاج – والذي صار نائباً للأستاذ/ أحمد صالح ثابت "مساعد المحافظ لشؤون التعليم" (مدير التعليم بالمحافظة) – فقد قال لي: "إنْتَ لَوْ مَا عَايِزْ تَمْشِي أَنَا سأجمِّد قِيَامْ المعهد". وكانت هذه هي بداية تأسيس "معهد المعلمين" بدنقلا.

أ. أحمد صالح ثابت
كانت معارضة نقابات المعلمين لفكرة التأهيل التربوي ما تزال مستمرة ولذلك انتقلت معارضة الفكرة لصفوف معلمي المرحلة المتوسطة برغم من الشعور العام وسط المعلمين بفائدة التجربة على أداء المعلمين، ولذلك واجهت هذه المعضلة في بداية التجربة إذ أخذ بعض المعلمين بترويج ضرورة أن يتولى التدريب بمعهد التدريب أساتذة حملة الدكتوراة، فكان أن قام الأستاذ/ عبد الرحمن محمد عبد الله حسين بقيادة التيار المناهض لقيام معهد المعلمين، وقد استجاب له قدامى أساتذة المرحلة المتوسطة بالامتناع عن التدريس بالمعهد، فتطوَّع زملائي أساتذة مدرسة دنقلا الثانوية بتولي مهمة التدريس بال
معهد فاستجاب عدد من أميز المعلمين، منهم الأساتذة أحمد عبد اللطيف محمود الشهير بـ"أحمد كيمياء" والأستاذ/ محمد إدريس والأستاذ/ أبو قرون أستاذ الرياضيات بمدرسة دنقلا الثانوية الشهير آنذاك، والأستاذ/ علي عباس أستاذ مادة التاريخ، فأنجحوا فكرة المعهد وقاموا بتدريب الدفعة الأولى من منسوبي المعهد.

أ. أحمد عبد اللطيف (كيمياء)

أ. محمد عبد الله حسين
أ. محمد مصطفى أبو قرون

  وكان الأستاذ المرحوم/ كامل مصطفى عبد المجيد هو سكرتير نقابة المعلمين، فجاءه المعلمون يقدمونه في معارضتهم فواجهته ببعض الحقائق، منها أن بعض الأساتذة الذين لم تسعفهم الظروف الاجتماعية مثل الزواج ما زالوا في الدرجة التاسعة (Scale J) ودفعتهم في الدرجة (B) وصاروا نظاراً في المدارس، وضربت له مثالاً بالأستاذة/ اعتدال خليل والأستاذة/ نعمات عشيري، والأستاذ/ محمد أحمد الطيب، فاقتنع الأستاذ/ كامل مصطفى وأحضر المعلمين فاعتذروا                              
أ. كامل مصطفى عبد المجيد
عن سلوكهم وانخرطوا كلهم في التدريب عدا الأستاذ/ عبد الرحمن محمد عبد الله حسن فقمت بإيقافه من المعهد، برغم صداقتي وزمالتي لوالده مولانا/ محمد عبد الله حسين فاعتذرت له وأخبرته أني ملزم بالحفاظ على مصلحة بقية الأساتذة ولا أستطيع مجاملة ابنه فتقبل ذلك الكلام بصدر رحب.

 واستقر العمل بالمعهد حتى التحق بالعمل فيه قدامى أساتذة المرحلة المتوسطة، فكان أهم الشخصيات التي انخرطت فيه الأستاذ/ مصطفى محمد يس والأستاذ/ كمال جابر والأستاذ/ إدريس حسن عبد ربه. ثم تقدم إلي الأستاذ/ محي الدين قناوي بطلب الانتداب للمعهد مدرباً فقبلت على الفور، إذ أنه كان وكيل الأستاذ/ كامل مصطفى في نقابة المعلمين، فرأيتُ فيه إضعافاً لدور النقابة وموقف سكرتيرها  في محاربة فكرة المعهد، وعلى الرغم من أنه كان يقوم بتدريس المواد المساعدة مثل مادة "تنمية المجتمع" إلا أن الأستاذ/ محي الدين كان إضافةً مفيدةً جداً وكان هديةً كبيرةً للمعهد.

ثم تطور عمل المعهد إذ جاءت منظمة "اليونيسف" UNICEF بمشروع تمويل تدريب موجهي المرحلة الابتدائية، وطُرح الأمر على إدارة التعليم حينذاك التي كان على رأسها الأستاذ/ أحمد صالح ثابت ومولانا/ شاكر علي إسماعيل، فأهمهم ذلك الأمر لأنهم يدركون أن هؤلاء الموجهين كانوا أساتذتي في عندما كنت تلميذاً في مرحلة الأساس – فمنهم الأستاذ/ فؤاد خليل والأستاذ/ مصطفى علي

أ. مصطفى علي أحمد

أحمد والأستاذ/ بدري خليفة وغيرهم - وأنهم لن يتقبلوا مسألة أن يقوم تلميذهم الذي قد يكون في عمر أبنائهم بسهولة، 
  فكلموني في ذلك فطمأنتهم أن الأمر سيتم بخير وأنا أدرك خطورة الأمر إن فشل. فلما بدأت الدورة التدريبية أخفيت عن المتدربين الكتاب المعد للتدريب وقمت بتوزيع كتيب امتحانات يحوي مسائل في علم "الجبرة" في الرياضيات، وأنا أعلم أن هؤلاء الأساتذة الكبار لم يكن هذا الفرع في الرياضيات يُدرس ولم يكن معلوماً لهم فجعلهم ذلك يدركون أنهم مقبلون على علوم جديدة عليهم تستحق التدريب عليها، فأقبلوا على ذلك باستجابة كبيرة، فاستقر الأمر، وتلت ذلك دورات عدة أقبل عليها المعلمون بجد وتقبلوها باهتمام وإكبارٍ شديد.

    
وعلى ذكر الأستاذ/ كمال جابر رحمه الله تعالى، فقد كان من طلابنا من مدرسة القولد المتوسطة
أ. كمال جابر
أ. الأمين كعورة
– والتي غدت حينذاك مدرسةً  حكومية بعد أن تأسست أهليةً كما ذكرنا، وكان من صنيع الأستاذ/ عمر الصديق – مدير
مدرسة دنقلا الثانوية حينذاك – ألا يقبل من مدرسة القولد المتوسطة غير الأوائل، فقبل الأربعة الأوائل الذين كان       أحدهم الأستاذ/ كمال جابر، غير أنه لم يستمر في دراسته بسبب انتقال والده الشيخ/ جابر إلى "مدني" الذي كان مديراً للتعليم فيها بعد عمله بدنقلا، فانتقل الطالب حينذاك/ كمال جابر إلى مدرسة بود مدني كان مديرها الأستاذ/ الأمين محمد أحمد كعورة الذي ظل يراسلنا مراراً لإرسال ملف الطالب/ كمال جابر بغية إكمال إجراءات نقله.            
          وعوداً لسيرة المعلمين المؤسسين الأوائل للتعليم أمثال الشيخ/ جابر والشيخ/ علام وشيخ/ زبير رشيد ومولانا/ شاكر علي إسماعيل – فإنه على الرغم من الفارق الزمني بين الشيخ/ جابر ومولانا/ شاكر - إذ أن الشيخ/ جابر حينما كان مديراً للتعليم كان مولانا/ شاكراً معلماً لم يبلغ درجة الناظر - فقد كانوا هم زعماء البلد الذين يتصدرون قضايا الناس لا يُقطع أمرٌ في الشأن العام إلا بمشورتهم ولا يحل ضيفٌ
اللواء/ محمد أحمد عروة
 إلا على ترتيبهم فيكونون في استقباله. فمثلاً يرجع الفضل في ابتدار أمر كهرباء ومياه مدينة دنقلا إلى الشيخ/ جابر، إذ أنه وفي استقبال وزير المعارف وقتها اللواء/ محمد أحمد عروة، أنشد شاعر دنقلا حينها الشيخ/ جابر قصيدة حيا فيها الضيف الزائر ومدحه فيها، ومن بعض أبياته فيها قال:(ثمَّ إنَّ النُّورَ والماءْ صارا مِنْ ضروراتِ البَنَادِرْ)، وحينما خاطب اللواء/ عروة الحضور شكر شاعرهم على الثناء وقال إنه لا يستحقه، وأنه سوف يستجيب للقول الذي قبل (ثم)، يقصد بذلك طلب مياه وإنارة مدينة دنقلا، ثم وجه من فوره مسؤولي وزارة الأشغال المهندسين إبراهيم محمد إبراهيم (من شيخ شريف) و
م. إبراهيم محمد إبراهيم
محمود محمد نور  خوجلي (من أبناء دنقلا) بعمل التقديرات اللازمة لذلك،         إلا أن المشروع لم يكتب له التنفيذ إلا في عهد ثورة مايو فيما بعد. هكذا كانوا رواد المجتمع إلى التطوير والتقدم، وحُرَّاسه من كل دخيلٍ مشين، والناطقين باسمه والمتقدمين صفوفه، والباذلين جهدهم ومالهم وعلمهم لرفعة الأجيال والعمل على مستقبل مشرق لهم. رحمهم الله تعالى رحمة واسعة، ومدَّ الله في أعمار الأحياء منهم في العافية والسلامة. آمين.

السبت، 16 سبتمبر 2023

 

ذكريات الأستاذ/ 
عمر عبد العزيز
         و

بدايات التعليم النظامي

   في مدينة دنقلا 
      (3)



وبعد انقشاع الأزمة قررنا نحن الأساتذة ألا نعمل بمدرسة دنقلا الثانوية، وحتى ذلك الحين فقد استمر عملنا بكل تفان في المدرسة، فقد حدث أن أحد أساتذة اللغة الإنجليزية "الخواجات" واسمه "" Mr. Ian ذهب في نزهة إلى "حي كابتود" ولم يعد للمدرسة حتى لم يبق للامتحانات النهائية وقتاً كثيراً، ولم يكمل لهم مقرر الأدب الإنجليزي "Literature"،  وهو كتاب "The Gun" – 218 صفحة - وكانت المادة مقدرة بعدد 28 درجة بالمائة من درجات امتحان اللغة الإنجليزية لـ"Paper3" من الامتحان – فلم تكن مادة الأدب الإنجليزي مادة منفصلة من امتحان اللغة الإنجليزية - لذلك قمت بالتطوع بتدريسها من الباطن بعد استئذان وكيل المدرسة الأستاذ/ عبد المنعم الذي أذن بذلك، وبفضل الله توفقت في توقعات الأسئلة "SPOTTING" فصدق التوقع وكان أن جاء عاشر السودان في تلك الدورة وهو الطالب/ مصطفى بشارة من هذا الفصل الأدبي الذي درس معي هذا الكتاب، وكان أن دخل جامعة الخرطوم كذلك ثلاثة أو أربعة من أولئك الطلاب. وكنت في ذلك العام مشرفاً على الفصل العلمي "أبو الفصل"، وفوجئت أن الطلاب كذلك لم يدرسوا باباً كاملاً هو باب "الكهربية".

جاءت لجنة للتحقيق من "الدامر" في أحداث شغب الطلاب، وكانت اللجنة مكونة من: مولانا/ شاكر علي إسماعيل، والأستاذ/ محجوب علي، والأستاذ/ فوزي جمال الدين. سألني الأستاذ/ عبد المنعم:(  إنتَ حَتْبَلِّغْ عن مِيْنْ مِنْ الطلَّاب؟)، فقلت له:( يا أستاذ عبد المنعم لا يجوز في حقنا أن نعطِّل  نظام الحكم فيُمنعوا من التعليم بسبب ذلك)، فكان رده أن هذا هو ذات الأمر الذي سيفعله، وكان الذي قاد الطلاب الخارجيين في الأحداث د. جمال مرتضى عبده -عميد كلية الهندسة بجامعة الخرطوم فيما بعد- وقاد الطلاب الداخليين د. سيف الدين محمد نور خيري (أخصائي أمراض الكلي) الأشهر بمركز "فضيل" الطبي فيما بعد.                                                                               في العام الدراسي 1966م جاءت تحويلات كثيرة للطلاب لمدرسة دنقلا الثانوية، ولم يكن من المسموح للمدرسة قبول أكثر من أربعين طالباً في الفصل– إلا أني لم أكن أعلم هذا الأمر - وكنت قد تطوعت بالعمل على إجراءات قبول الطلاب "نبطشي"Duty لعدد من الشهور، وكان ذلك على عهد المدير/ عمر الصديق، وذات يومٍ من بدايات

العام الدراسي جاء أحد أعيان الولاية وهو والد السيد/ محمد عثمان الذي صار فيما بعد مديراً لبنك "النيلين" بدنقلا إلى مدير المدرسة طالباً قبول ابنه للدراسة، فاعتذر له المدير/ عمر الصديق بحجة اكتمال العدد المسموح به وهو أربعون طالباً للفصل وقد اكتمل العدد، فخرج والد الطالب كاسف البال، فرأيت منه ذلك وطلبت منه إبقاء ابنه لعلنا نجد له مبرراً للقبول بانسحاب أحد الطلاب أو أمرٍ آخر، فتركه وانصرف، وأكملتُ للطالب إجراءات قبوله (حَتَّىْ يَقْضِيَ اللهُ أَمْرَاً كانَ مَفْعُوْلاً، لكن أحداً من الطلاب لم ينسحب، وصار العدد واحداً وأربعين طالباً في أحد الفصول، ولم أشأ أن يستمر الوضع هكذا بدون علم المدير فأخبرته بتصرفي وأني أتحمل المسؤولية عن هذا التصرف وله أن يرى ما يراه مناسباً ولو أدى ذلك للمحاسبة، وبعد شهور جاءنا إلى المدرسة الأستاذ/ عبد القادر حسن الضو – مساعد وكيل الوزارة للإدارة، وكان أستاذي في مدرسة وادي سيدنا الثانوية – مفتشاً زائراً، وعندما أخبر بالموضوع مازحني قائلاً:(إنت يا أستاذ عمر كنت متعبنا في المدرسة وهسي متعبنا في التدريس)، فقلت له إنه كان بإمكاني إخفاء الأمر والتصرف بغير شفافية في معالجة الأمور، غير أن السيد/ عمر الصديق بذكائه وعبقريته وحنكته الإدارية قام بكتابة خطاب يبرر فيه تصرفي باستغلال ثغرة أن المقعد رقم (41) في الفصل والذي كان من اختصاص الوزير بحيث لا يُسمح بالقبول فيه إلا بأمره، فاختار عمر الصديق أحد الطلاب المحولين إلى المدرسة، وهو الطالب/ بشير زبير محمد إدريس (من شيخ شريف) - والذي يصادف تحويله فترة تولي الأستاذ/ التجاني علي مدير الوزارة آنذاك ومكلفاً بأعباء الوزير حتى تشكيل الحكومة، وقد كان الأستاذ/ التجاني مكلفاً بأعباء الوزير في الترة التي وقعت بين استقالة السيد/ محمد أحمد محجوب من رئاسة مجلس الوزراء 

عبد القادر حسن الضو
وتولي السيد/ الصادق المهدي لها في أول فتراته الرئاسية – وكتب المدير/ خطاباً يوضح فيه أن ذلك الطالب هو الشاغل لمقعد الوزير الذي كمل العدد إلى (41) طالباً، وبذلك
بشير زبير محمد إدريس

رفع الحرج في تجاوز لوائح القبول للفصول الدراسية، وقبل أن يتم إرسال الخطاب مع د. عبد القادر حسن الضو جاء تلغراف إلى المدير من مدير مدرسة كوستي يطلب فيه الموافقة على نقل أحد طلاب مدرسة دنقلا للقبول الجديد إلى مدرسة كوستي بناءً على طلبه، فوافق المدير/ عمر الصديق وبذلك رجع عدد طلاب الفصل إلى العدد القانوني وهو أربعون طالباً فانحل الاشكال تلقائياً.
 في العام 1974م وعلى إثر أحداث إضراب الطلاب قررنا ومدير المدرسة آنذاك الأستاذ/ ساتي علي الحاج والأستاذ/ عبد المنعم إبراهيم عثمان طلب النقل من مدرسة دنقلا الثانوية. 

وصدف أن حضر إلى دنقلا عن الوزارة زميلنا في "بخت الرضا" في الكورس رقم (18) الأستاذ/ عبد العزيز سعد عمر – شقيق السياسي/ أحمد سعد عمر – وكلن قد استُحدث نظام "التأهيل التربوي" للمعلمين حديثاً، فكنت أرغب في الخروج من مدرسة دنقلا الثانوية بأي وسيلةٍ متاحة، وقد وجدت ضالتي في الالتحاق بـ"التأهيل التربوي" مدرباً، وقد كان الأستاذ/ عبد العزيز قد حضر لهذا الغرض، ونزل باستراحة المعلمين رغم

أحمد سعد عمر

إلحاحي عليه بالنزول بداري وهو الأمر الطبيعي، غير أنه صارحني بالسبب بأنه قرر ألا يختارني للعمل بـ"التأهيل التربوي" وقرر اختيار الأساتذة/ فؤاد عثمان شيخ وعبد الوهاب حسن سعد الدين لذلك، وصارحني بأن نقابة المعلمين – وكانت تحت سيطرة الشيوعيين آنذاك – قد روجت لرفض فكرة "التأهيل التربوي" وسط المعلمين، وأنه سيعتمد حتى رسوخ الأمر على المعلمين الذين سبق لهم العمل في هذا المجال، فالأستاذ/ فؤاد 
عثمان  شيخ سبق أن عمل في "بخت الرضا"، والأستاذ/ عبد الوهاب حسن سعد الدين سبق أن عمل في "كلية معلمات مدني". إلا أن الأستاذيين رفضا دعوة أستاذ/ عبد العزيز سعد لسبب غير معروف فلجأ إلي فقبلت  وانتقلت للعمل في "معهد التأهيل التربوي"، وغادرت مدرسة دنقلا الثانوية.                                                                                                                                                                                                                                                                             

أ. فؤاد عثمان شيخ
أ. عبد الوهاب حسن


  

 

   



   

الجمعة، 1 سبتمبر 2023

 



ذكريات الأستاذ/ 
      عمر عبد العزيز
              و

  بدايات التعليم النظامي
     في مدينة دنقلا 
        (2)

تم قبول طلبي بالعمل في مدرسة دنقلا الثانوية على أن أقوم بتدريس الرياضيات في العام 1965-1966م، وكان عليها يومذاك الناظر العلم الشهير في تاريخ التعليم بدنقلا  والسودان الأستاذ/ عمر الصديق، وهو أول مدير لمدرسة دنقلا الثانوية بنين.

الأستاذ/ عمر الصديق محمد مضوي، من جزيرة "توتي"، تعود أصوله إلى المحس – من جهة شمال قرية "كجبار" بالمحس- كان أستاذاً متفرداً نبيهاً متديناً معتزاً بدينه، وكان من "الأخوان المسلمين"، حكى السفير أبو بكر عثمان أنه كان في العام 1956م أستاذاً بشعبة اللغة الإنجليزية بمدرسة "خور طقت" قبل الانتقال للعمل بوزارة الخارجية، وأن الأستاذ/ عمر الصديق كان يضع ملصقاً على الحائط مكتوبٌ فيه قول الله تعالى:)يَا أَيُّهَا النَّبِيُ جَاهِدِ الكُفَّارَ والمُنَافِقِيْنَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ(، فسأل رئيس الشعبة - الأستاذ/ أبو بكر، وهو معلمٌ إنجليزي- عن معنى المكتوب في الملصق، والأستاذ عمر الصديق حينذاك يُصلي – فأجاب رئيسَ الشعبة بمعنىً لطيفٍ استحياءً منه أن ينقل إليه المعنى، فلما فرغ الأستاذ/ عمر الصديق من صلاته واجه رئيس الشعبة بالمعنى الصريح للآية بدون مواربةٍ أو تلطيفٍ اعتزازاً منه بدينه. في العام 1946م ذهب في بعثة دراسية لبريطانيا كما أنه كان في عداوةٍ متبادلةٍ ومستمرةٍ مع الأساتذة الشيوعيين بالمدرسة، فقد كان منهم بمدرسة دنقلا الثانوية الأساتذة: حسن علي عبيدي وعبد الوهاب الجاك والأستاذ المرحوم/ عكاشة والأستاذ/ عووضة، وانتهى الأمر بنقله لكل الأساتذة الشيوعيين من المدرسة.

أ. حسن عبيدي
وكان الأستاذ/ عمر الصديق يسكن بـ"حي النيل" بدنقلا، وفي هذا الحي أنجب ابنه الأديب الشهير والأستاذ بجامعة الخرطوم د. الصديق عمر الصديق.

كان الأستاذ/ عمر الصديق نابغةً في اللغتين الإنجليزية والعربية، فقد تفوق أثناء بعثته لدراسة اللغة الإنجليزية في بريطانيا سنة 1946م، فكان الأول على زملائه بما فيهم البريطانيين، ومع ذلك لم يكن يدخر علمه في حالة عدم وجود أستاذٍ ما لتدريس اللغة الإنجليزية في مدرسته فكان يقوم بالتدريس بنفسه، ويخلص في عمله، وكان إسلامي الاتجاه، ولا يتقبل "الخواجات". وأذكر إبان عملي في "مدرسة دنقلا الأهلية المتوسطة" أن جاء ثلاثة من "الخواجات" البريطانيين موجهين لأساتذة مدرسة دنقلا الثانوية - فكان من بين الثلاثة "مستر" وليام" – أستاذ العلوم - و"مستر اسمث" – أستاذ الرياضيات -وهما من أساتذتي بمدرسة "وادي سيدنا الثانوية"، أما الثالث وهو "مستر هول" كان معلماً بمدرسة "حنتوب الثانوية"، وقد نزلوا بالاستراحة الحكومية فقمت بإلحاقهم بـ"ميز" "المدرسة الأهلية المتوسطة" ليجدوا متعتهم في "الشراب" مع أساتذة المدرسة العُذاب – فما كان من أستاذ/ عمر الصديق إلا أن أغلق المدرسة وأعطى طلابها إجازة قبل وصول الموجهين احتجاجاً منه أن يحضر بريطاني -هو أكفأُ منه في تدريس اللغة الإنجليزية - لتوجيهه.

د. الصديق عمر الصديق
فلم يجد الموجهون بداً من استغلال الطائرة والمغادرة بعد أسبوع من مجيئهم بغير أداء مهمتهم، فقام بفتح المدرسة بعد ذلك.

وكان الأستاذ/ عمر الصديق يولي عنايةً خاصةً بذوي الاهتمامات الخاصة من الطلاب، سيما طلاب الدفعة الأولى، تلك الدفعة التي ضمت مشاهير منهم الأستاذ/ مرغني عابدين وأحمد محمد عبد المجيد، وجعفر محمد صالح، والمهندس د. تاج الدين حسين الأفندي.  

فقد كان الطالب/ أحمد محمد عبد المجيد - والطبيب لاحقاً، صاحب شهادات الدكتوراة المختلفة في الطب في بريطانيا حيث استقر وتزوج بريطانية هناك، وهو من أبناء قرية "جرادة" – كان طالباً ذا اهتمام فائقٍ بالاطلاع والقراءة، حتى إنه قرأ كل كتب مكتبة المدرسة، فكان الأستاذ/ عمر الصديق حفياً به يأتيه بالكتب من بيته ليواصل هوايته في القراءة والاطلاع.

وكذلك الطالب والشاعر لاحقاً/ التجاني سعيد محمد - من الحسنانية بمدينة "أرقو" – الذي كتب قصيدةً يهجو فيها المدير/ عمر الصديق، منوهاً فيها بشعار المدرسة حينذاك وهو عبارة:(لا تيأس)، فكتب في ذلك قصيدةً طويلة مطلعها:

                  يا نَاظِرَ مَدْرَسَةِ الْيَأسِ    ضَيَّعْتَ الْعِلْمَ مِنْ الرَّأسِ

وقذف بالقصيدة في مكتب المدير من تحت الباب، فلما وجدها الأستاذ/ عمر الصديق وقرأها أخفاها ولم يُطلع عليها أحداً حتى حان اجتماع أساتذة المدرسة فقرأها في الاجتماع، ثم قال متنبأَ: أنا لن أعاقب الطالب كاتب القصيدة (لأنه هذا ميلاد شاعر). وقد صدقت نبوءته، فصار أحد أشهر شعراء الأغنية السودانية وأحد صُنَّاع مجد الفنان محمد وردي.

أ. مرغني عابدين

وكان الأستاذ/ عمر الصديق لا ينسى الذين عملوا معه في أي مرحلة من عمله، وبعد العمل بالمدارس انتُدب للعمل باليونسكو فكان "مدير اللجنة الوطنية لليونسكو"، في حوالي العام 1977م قابلته فقال لي: إن شاء الله سأحضر احتفالات مدرسة دنقلا الثان
وية بالعيد الفضي في العام 1988م بدنقلا. إلا أن الوفاة عاجلته قبل ذلك بسبب إضراب الأطباء بعد إجرائه لعملية زائدة التهب جرحه على إثرها وصادف ذلك اضراب الأطباء فتوفي بسبب ذلك.

الشاعر/ التجاني سعيد

وكانت بعض الأحداث في السودان أدت إلى تعطل الدراسة بمدارس ملكال وجبل أولياء فابتعثت الوزارة هذين الفصلين للدراسة بمدرسة دنقلا الثانوية وكل طلابها من أبناء الشمالية، فصرت أدرِّس الرياضيات لعدد (160 طالباً)، وقد ضمت أول دفعة أقوم بتدريسها في مدرسة دنقلا الثانوية أعلاماً منهم: فاروق محمد أحمد (الكهرباء) ودكتور/ حسين هارون الصائغ الأستاذ المرحوم/ عبد المعطي هاشم من أبناء دنقلا وغيرهم. إضافةً إلى ذلك فقد صدف حضوري للمدرسة ذهاب محاسب المدرسة للعمل بالمملكة العربية السعودية، فتولى تلك المهمة الأستاذ/ عبد الرحيم مقلد بجانب التدريس حتى تم ابتعاثه إلى إنجلترا، فلما قدمت للعمل بالمدرسة ألحَّ عليَّ المدير/ عمر الصديق لتولي مهام محاسب المدرسة مع التدريس فقمت بذلك، ثم جاء إلينا مفتش مادة الرياضيات أستاذي الخواجة/ مستر إسميث، موجهاً للرياضيات وتدريس الرياضيات الإضافية لـ"سنة ثالثة"، وقد طلب مني الاستمرار في تدريس الرياضيات، غير أني رجوته أن أغير عملي لتدريس اللغة الإنجليزية بدلاً من الرياضيات،

أ.عبد المعطي هاشم

أ. عبد الرحيم مقلد

وبررت ذلك بأن أحد الطلاب جاءني لحل مسألة رياضيات من صفحة (100) في الكتاب، وكنت قد وصلت ف
ي التدريس إلى صفحة (70) في كتاب "الجبر"، سيما وأن كتاب "الجبر" ذلك كان منهجاً مصرياً لم نعتد التعامل معه، فاعتذرت له بأني لم أطلع على مسائل ذلك الباب ولكني وعدته بأن أجيب على سؤاله وأحل له المسألة عندما أصل في التدريس لتلك الصفحة. فقال لي مستر/ إسميث:( 
You are very honest)، وعندما عاد إلى الخرطوم أرسل برقيةً تفيد بنقلي إلى شعبة اللغة الإنجليزية وابتعاثي فوراً إلى بورتسودان لحضور كورس تدريب في (British Council)، ومن طرائف أحداث زيارة مستر/ إسمث تلك إلى دنقلا أن دعانا بعض طلابه حينذاك منهم: د. عبد الرحمن عبد الكريم ساتي (من قرية ود نميري) ود. النور محمد أحمد صالح (من قرية شيخ شريف) والأستاذ/ محمود سوار (من قرية سورتود) لمأدبة ورحلة نيلية بباخرة (أبو رفاس)، وتفاجأنا في امتحان الرياضيات للشهادة السودانية للعام التالي 1967م بمستر سميث يضع سؤالاً بمسألة رياضية في "الجبر" يذكر فيها تلك الرحلة في قرية "ود نميري" ويطلب قياس سرعةٍ ا
د. النور محمد أحمد صالح
فتراضيةٍ
ما قياساً على سرعة ذلك "الرفاس". وكان من توفيق الله لنا في اشتغالي بمهام محاسب المدرسة أن اقترحت على المدير/ عمر الصديق شراء احتياجات ضرورية للمدرسة - فقد كانت المدرسة تفتقر إلى مطبعة لطباعة الامتحانات وثلاجة لأغراض ضيافة الزوار، فقد كانت زيارات "الخواجات" من الموجهين والمسؤولين للمدرسة كثيرة - وذلك من فائض تسيير عذاءات المدرسة (الراجعة)، فوافق المدير، فكان أن استجلبنا للمدرسة مطبعة إيطالية و(رونيو) وثلاجة. وفيما بعد تم تكليف محاسب للمدرسة، وجاء مراجع الحسابات للمدرسة فأشاد بالعمل في السابق واتهم ذلك المحاسب بالاختلاس وقال: كانت الحسابات في عهد "المعلم" الذي تولاها أكثر دقةً من عهد المحاسب. وذلك بسبب جهل المحاسب وعدم موازنته بين الإستمارات (الأرانيك)، فهنالك ثلاثة "أرانيك" يتوقف صحة عمل المحاسب على ضبطها، وهي: أورنيك (15) وهو استمارة التحصيل، وأورنيك (67) هو استمارة حصر "الإيصالات"، وأورنيك (40)
أ. محمود سوار

هو استمارة إذن الصرف. وفي عهد المدير/ عمر الصديق حدثت مظاهرات للطلاب من الدفعة التي كان بها الفريق/ بكري حسن صالح، وذلك بحجة رداءة الغذاءات. وكانت قوة المدرسة من المدرسين على فريقين؛ فريق يؤازر المدير/ عمر الصديق وفريق آخر مناهض له يقوده الشيوعيون الذين كانوا يسيطرون على النقابة العامة ونقابة المدرسة حينها، فمن هؤلاء المناهضين؛ علي عبد الله وصلاح كردوسة وغيرهم. فاقترح هؤلاء الشيوعيون حرمان الطلاب من الغذاءات عقاباً لهم على خروجهم في المظاهرات، وانخدعنا بهذا المقترح إذ وافقنا عليه، فإذا بالأستاذ/ مندور المهدي - وكيل الوزارة حيذاك - يتصل بالمدرسة معترضاً على هذا التصرف من إدارة المدرسة، بحجة أن الغذاءات لا توفرها المدرسة لتحرم الطلاب منها، ووجه بتغيير العقوبات لقادة الإضراب من الطلاب إلى الفصل والفصل المؤقت والطرد من الداخلية وغيرها من العقوبات التربوية.
بكري حسن صالح

 وكان المدير/ عمر الصديق حينها في مأمورية لحضور مؤتمر "النظار"، ولم يوفق نائبه الأستاذ/ التوم فوزي في الرد على الأستاذ/ مندور المهدي صاحب الشخصية القوية المهابة، إذ كان رد نائب المدير بأنه لا يستطيع فعل ذلك لأن مدرسي المدرسة سيضربون عن العمل، فأمره أستاذ/ مندور بأن يضع سماعة الهاتف ويستقل الطائرة ويحضر إليه في الوزارة، ثم أصدر قراراته بتنقلات أساتذة مدرسة دنقلا الثانوية إلى مدارس مختلفة في السودان، فكان قدري أن أُنقل للخرطوم ومدرسة/ معاذ السراج وهي مدرسة غير حكومية، وكان من العسير علي جداً العمل في الخرطوم حينذاك إذ كنت حديث عهدٍ بالزواج ولي ابنتي/ عواطف، وكان مساعد الوكيل للتعليم الثانوي حينذاك جدنا الأستاذ/ عبد الرحمن عبد الله الفيومي، فذهبت للقائه في صحبة عمنا/ صابر عبد الوهاب بغرض الرجوع للعمل بدنقلا، وصدف أن جاء لمقابلته كذلك عمنا/ نجم الدين الحميدي وابنه المرحوم/ زكي طالبين مساعدته في قبول أبنائهم بالمدارس، فالتفت الأستاذ/ عبد الرحمن لأعمامنا صابر ونجم الدين وخاطبهم ممازحاً:(يعني مافي واحد فيكم جاييني لوجه الله)، وضحكنا جميعنا. ووعدنا أستاذ/ عبد الرحمن بالمحاولة بعد إجازة المدارس برغم منع أستاذ/ مندور التعامل في حالات مدرسي مدرسة دنقلا بصفة خاصة، وكان ذلك في شهر يوليو وإجازة المدارس. ومع وعد جدنا أستاذ/ عبد الرحمن فقد قمت بالحديث إلى حارس مرمى المريخ حينذاك وابن خالتي السيد/ رفعت نجم الدين الحميدي، فكلَّم في ذلك نائب رئيس نادي المريخ يومها السيد/ حسن محمد عبد الله، فقطع بأنه سيفعل ذلك، واتفق أن نجح عمنا/ عبد الرحمن عبد الله
رفعت نجم الدين الحميدي حارس المتواليات الثمانية

في محاولته مع مسؤول شؤون العاملين بالوزارة واسمه/ بانقا، فاتصل عمنا/ عبد الرحمن بعمي/ صابر عبد الوهاب وأخبره بذلك فرجعت للعمل بدنقلا. غير أن رجوعي للعمل تصادف مع نهاية عمل المدير/ عمر الصديق وتكليف الأستاذ/ ساتي الحاج بإدارة مدرسة دنقلا الثانوية، وتقابلنا ثلاثتنا في الوزارة، فقال المدير/ عمر الصديق للأستاذ/ ساتي أن التسليم والتسلم سيقوم به أستاذ عمر عبد العزيز لأنه كان يتولى كل الشؤون تقريباً في المدرسة، وقد كنت في عهد هذين المديرين مسؤولاً من جدول الحصص العام ومن تأجير البيوت للداخليات ومن توزيع الطلاب في الفصول ومن تحليل نتيجة الامتحانات، وقد خلق ذلك الوضع لي حساسية مع بعض قدامى الأساتذة في المدرسة لكن العلاقة قد تحسنت معهم بمرور الزمن. وواصلت العمل بالمدرسة الثانوية حتى العام 1969م.

كنت قد استدركت توقف مسيرتي التعليمية عند الدخول للدراسة الجامعية، فقررت الالتحاق بكلية الاقتصاد بجامعة القاهرة فرع الخرطوم، وذلك في العام 1969م فدرست بها السنة الأولى عبد القادر تلودي صاحب مدرسة تلودي في الحارة الأولى وكان حينذاك مديراً لمدرسة النصر - وكان الأستاذ/ معاذ السراج عميدها - أطلب منه الالتحاق بالتدريس بالمدرسة لمواجهة ظروف الصرف في الخرطوم، وقام الأستاذ تلودي بمقابلة الأستاذ/ عبد الرحمن عبد الله - مدير التعليم الثانوي - وطلب نقلي إلى مدرسة النصر فرفض الأستاذ/ عبد الرحمن طلبه بسبب الحاجة الماسة لوجودي في دنقلا، فأبرز له أستاذ تلودي طلبي المكتوب ونُقلت للعمل بمدرسة النصر.

أ. ساتي علي الحاج

 ثم جاء دورنا في الوزارة للابتعاث إلى بريطانيا. وعندما عدتُ من الابتعاث وجدت نفسي منقولاً لجهتين: الأولى مدرسة "السرايا" بنات الثانوية، والثانية تعليم الشماليين وهي المدارس الوسطى، فقررت من نفسي العمل بمدرسة دنقلا الأهلية وأمضيتُ فيها عاماً كاملاً ثم أنذرتني الوزارة بالعمل بمدرسة "السرايا" الثانوية للبنات بدنقلا وإلا سوف توقف راتبي فاضطررت للعمل بمدرسة "السرايا". وفي ذلك العام قام الأستاذ/ ساتي الحاج بنقل مدرس لغة إنجليزية من مدرسته بحجة افتعاله المشاكل وطلب حضوري للمدرسة والتدريس بها برغم كوني المعلم الوحيد بشعبة اللغة الإنجليزية بمدرسة "السرايا"، فقمت بالتدريس في المدرستين لمدة ثلاثة أشهر حتى انتقلت إليها رسمياً، وتفاجأت بعد نقلي بأني الوحيد كذلك في شعبة اللغة الإنجليزية بمدرسة دنقلا الثانوية، فصرت أدرس عدد (11) فصل بها، فكنت أجمع الفصول "التوالت" في أربع حصص، وأجمع طلاب "التواني" في المعمل أقوم بتدريسهم مجتمعين كذلك عدداً من الحصص. فكنت أدرَّس عدد (31) حصة في الأسبوع لعدد من الشهور حتى تم نقل الأستاذ/ محمد محمود صالح للمدرسة وجاء "الخواجات" للتدريس. وكان من طلابي بتلك الدفعات من أبناء دنقلا: حيدر أسعد قناوي والأستاذ/ محمد سرور والمهندس/ رضوان الأفندي ووالي الولاية الشمالية سابقاً/ ميرغني صالح سيد أحمد والأستاذ/ منصور الخليفة. ومن الطرائف في تلك الفترة أنني كنت آخذ معي كراسات طلاب الفصل الثالث لموضوعات الـ(COMPOSITION) إلى المنزل في حقيبة   
م. رضوان عوض الأفندي
 بغرض التصحيح فكتب الطلاب على باب مكتبي عبارة "مكتب الأستاذ عمر عبد العزيز المحامي". بعد نهاية العام الدراسي 73/1974م جاءت أحداث سياسية ضد حكم الرئيس "نميري" وشارك طلاب المدرسة بالإضراب، وقاموا باعتقال عدد من أساتذة المدرسة بمكتب المدير فكنت معتقلاً في معية الأساتذة محمد المبارك ووكيل المدرسة الأستاذ/ عبد المنعم إبراهيم
أ. مندور المهدي
 (من القولد)، عم سيدة الأعمال/ وداد يعقوب والمدير الأستاذ/ ساتي علي الحاج. وبمبادر غريبة من الطلاب سمحوا لي بالخروج لوحدي من بين الأساتذة، لكنهم طلبوا تسليمهم إيصالات الغرامات التي دفعها الطلاب الذين قُررت عليهم جراء تخريبهم في الأحداث السابقة لأنها تشكل سابقة في حقهم، لكنني رفضت، فأرجعوني في الاعتقال، إلا أن الطلاب – وبرغم الثورة والحماس الذي كان يبدو في تصرفاتهم – فقد كان بعضهم يتصرف بأخلاق عالية، لذلك أتى بعضهم وهم يحملون العصي الغليظة من حطب مطبخ الداخلية "السفرة" وحرسونا من خارج المكتب حتى لا يتصرف من بهم طيش بسوء خلق، وهنا أدركت من تعامل الطلاب معي بصفة خاصة معنى أن يعاون المعلم طلابه في أمورهم ويتلطف معهم، فيكون بتعبير "الخواجات"(
أ. محمد سرور
Popular Teacher)، فقد سمحوا لي مرة أخرى بالخروج بدون شرط ولا قيد فرفضت، غير أن الأستاذ/ عبد المنعم إبراهيم أصر على خروجي وحلف بالطلاق ألا أمكث معهم فخرجت لأجد مدينة دنقلا – وعن بكرة أبيها – قد تجمعت في ميدان المدرسة تشهد ما يفعله الطلاب لأجد فجأة أمامي الأخ/ أحمد صابر عبد الوهاب بعربته الـ(Land Rover)وأخذني وأسرع بي إلى المنزل.
أ. منصور عبد الرحيم الخليفة
 وبعد انقشاع الأزمة قررنا نحن الأساتذة ألا نعمل بمدرسة دنقلا الثانوية.