تم قبول طلبي بالعمل في مدرسة دنقلا الثانوية على أن أقوم بتدريس الرياضيات في العام 1965-1966م، وكان عليها يومذاك الناظر العلم الشهير في تاريخ التعليم بدنقلا والسودان الأستاذ/ عمر الصديق، وهو أول مدير لمدرسة دنقلا الثانوية بنين.
الأستاذ/ عمر الصديق محمد مضوي، من جزيرة "توتي"، تعود أصوله إلى المحس – من جهة شمال قرية "كجبار" بالمحس- كان أستاذاً متفرداً نبيهاً متديناً معتزاً بدينه، وكان من "الأخوان المسلمين"، حكى السفير أبو بكر عثمان أنه كان في العام 1956م أستاذاً بشعبة اللغة الإنجليزية بمدرسة "خور طقت" قبل الانتقال للعمل بوزارة الخارجية، وأن الأستاذ/ عمر الصديق كان يضع ملصقاً على الحائط مكتوبٌ فيه قول الله تعالى:)يَا أَيُّهَا النَّبِيُ جَاهِدِ الكُفَّارَ والمُنَافِقِيْنَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ(، فسأل رئيس الشعبة - الأستاذ/ أبو بكر، وهو معلمٌ إنجليزي- عن معنى المكتوب في الملصق، والأستاذ عمر الصديق حينذاك يُصلي – فأجاب رئيسَ الشعبة بمعنىً لطيفٍ استحياءً منه أن ينقل إليه المعنى، فلما فرغ الأستاذ/ عمر الصديق من صلاته واجه رئيس الشعبة بالمعنى الصريح للآية بدون مواربةٍ أو تلطيفٍ اعتزازاً منه بدينه. في العام 1946م ذهب في بعثة دراسية لبريطانيا كما أنه كان في عداوةٍ متبادلةٍ ومستمرةٍ مع الأساتذة الشيوعيين بالمدرسة، فقد كان منهم بمدرسة دنقلا الثانوية الأساتذة: حسن علي عبيدي وعبد الوهاب الجاك والأستاذ المرحوم/ عكاشة والأستاذ/ عووضة، وانتهى الأمر بنقله لكل الأساتذة الشيوعيين من المدرسة.
![]() |
أ. حسن عبيدي |
كان الأستاذ/ عمر الصديق نابغةً في اللغتين الإنجليزية والعربية، فقد تفوق أثناء بعثته لدراسة اللغة الإنجليزية في بريطانيا سنة 1946م، فكان الأول على زملائه بما فيهم البريطانيين، ومع ذلك لم يكن يدخر علمه في حالة عدم وجود أستاذٍ ما لتدريس اللغة الإنجليزية في مدرسته فكان يقوم بالتدريس بنفسه، ويخلص في عمله، وكان إسلامي الاتجاه، ولا يتقبل "الخواجات". وأذكر إبان عملي في "مدرسة دنقلا الأهلية المتوسطة" أن جاء ثلاثة من "الخواجات" البريطانيين موجهين لأساتذة مدرسة دنقلا الثانوية - فكان من بين الثلاثة "مستر" وليام" – أستاذ العلوم - و"مستر اسمث" – أستاذ الرياضيات -وهما من أساتذتي بمدرسة "وادي سيدنا الثانوية"، أما الثالث وهو "مستر هول" كان معلماً بمدرسة "حنتوب الثانوية"، وقد نزلوا بالاستراحة الحكومية فقمت بإلحاقهم بـ"ميز" "المدرسة الأهلية المتوسطة" ليجدوا متعتهم في "الشراب" مع أساتذة المدرسة العُذاب – فما كان من أستاذ/ عمر الصديق إلا أن أغلق المدرسة وأعطى طلابها إجازة قبل وصول الموجهين احتجاجاً منه أن يحضر بريطاني -هو أكفأُ منه في تدريس اللغة الإنجليزية - لتوجيهه.
![]() |
د. الصديق عمر الصديق |
وكان الأستاذ/ عمر الصديق يولي عنايةً خاصةً بذوي الاهتمامات الخاصة من الطلاب، سيما طلاب الدفعة الأولى، تلك الدفعة التي ضمت مشاهير منهم الأستاذ/ مرغني عابدين وأحمد محمد عبد المجيد، وجعفر محمد صالح، والمهندس د. تاج الدين حسين الأفندي.
فقد كان الطالب/ أحمد محمد عبد المجيد - والطبيب لاحقاً، صاحب شهادات الدكتوراة المختلفة في الطب في بريطانيا حيث استقر وتزوج بريطانية هناك، وهو من أبناء قرية "جرادة" – كان طالباً ذا اهتمام فائقٍ بالاطلاع والقراءة، حتى إنه قرأ كل كتب مكتبة المدرسة، فكان الأستاذ/ عمر الصديق حفياً به يأتيه بالكتب من بيته ليواصل هوايته في القراءة والاطلاع.
وكذلك الطالب والشاعر لاحقاً/ التجاني سعيد محمد - من الحسنانية بمدينة "أرقو" – الذي كتب قصيدةً يهجو فيها المدير/ عمر الصديق، منوهاً فيها بشعار المدرسة حينذاك وهو عبارة:(لا تيأس)، فكتب في ذلك قصيدةً طويلة مطلعها:
يا نَاظِرَ مَدْرَسَةِ الْيَأسِ ضَيَّعْتَ الْعِلْمَ مِنْ الرَّأسِ
وقذف بالقصيدة في مكتب المدير من تحت الباب، فلما وجدها الأستاذ/ عمر الصديق وقرأها أخفاها ولم يُطلع عليها أحداً حتى حان اجتماع أساتذة المدرسة فقرأها في الاجتماع، ثم قال متنبأَ: أنا لن أعاقب الطالب كاتب القصيدة (لأنه هذا ميلاد شاعر). وقد صدقت نبوءته، فصار أحد أشهر شعراء الأغنية السودانية وأحد صُنَّاع مجد الفنان محمد وردي.
![]() |
أ. مرغني عابدين |
وكان الأستاذ/ عمر الصديق لا ينسى الذين عملوا معه في أي مرحلة من عمله، وبعد العمل بالمدارس انتُدب للعمل باليونسكو فكان "مدير اللجنة الوطنية لليونسكو"، في حوالي العام 1977م قابلته فقال لي: إن شاء الله سأحضر احتفالات مدرسة دنقلا الثانوية بالعيد الفضي في العام 1988م بدنقلا. إلا أن الوفاة عاجلته قبل ذلك بسبب إضراب الأطباء بعد إجرائه لعملية زائدة التهب جرحه على إثرها وصادف ذلك اضراب الأطباء فتوفي بسبب ذلك.
![]() |
الشاعر/ التجاني سعيد |
وكانت بعض الأحداث في السودان أدت إلى تعطل الدراسة بمدارس ملكال وجبل أولياء فابتعثت الوزارة هذين الفصلين للدراسة بمدرسة دنقلا الثانوية وكل طلابها من أبناء الشمالية، فصرت أدرِّس الرياضيات لعدد (160 طالباً)، وقد ضمت أول دفعة أقوم بتدريسها في مدرسة دنقلا الثانوية أعلاماً منهم: فاروق محمد أحمد (الكهرباء) ودكتور/ حسين هارون الصائغ الأستاذ المرحوم/ عبد المعطي هاشم من أبناء دنقلا وغيرهم. إضافةً إلى ذلك فقد صدف حضوري للمدرسة ذهاب محاسب المدرسة للعمل بالمملكة العربية السعودية، فتولى تلك المهمة الأستاذ/ عبد الرحيم مقلد بجانب التدريس حتى تم ابتعاثه إلى إنجلترا، فلما قدمت للعمل بالمدرسة ألحَّ عليَّ المدير/ عمر الصديق لتولي مهام محاسب المدرسة مع التدريس فقمت بذلك، ثم جاء إلينا مفتش مادة الرياضيات أستاذي الخواجة/ مستر إسميث، موجهاً للرياضيات وتدريس الرياضيات الإضافية لـ"سنة ثالثة"، وقد طلب مني الاستمرار في تدريس الرياضيات، غير أني رجوته أن أغير عملي لتدريس اللغة الإنجليزية بدلاً من الرياضيات،
![]() |
أ.عبد المعطي هاشم |
![]() |
أ. عبد الرحيم مقلد |
وبررت ذلك بأن أحد الطلاب جاءني لحل مسألة رياضيات من صفحة (100) في الكتاب، وكنت قد وصلت ف
ي التدريس إلى صفحة (70) في كتاب "الجبر"، سيما وأن كتاب "الجبر" ذلك كان منهجاً مصرياً لم نعتد التعامل معه، فاعتذرت له بأني لم أطلع على مسائل ذلك الباب ولكني وعدته بأن أجيب على سؤاله وأحل له المسألة عندما أصل في التدريس لتلك الصفحة. فقال لي مستر/ إسميث:( You are very honest)، وعندما عاد إلى الخرطوم أرسل برقيةً تفيد بنقلي إلى شعبة اللغة الإنجليزية وابتعاثي فوراً إلى بورتسودان لحضور كورس تدريب في (British Council)، ومن طرائف أحداث زيارة مستر/ إسمث تلك إلى دنقلا أن دعانا بعض طلابه حينذاك منهم: د. عبد الرحمن عبد الكريم ساتي (من قرية ود نميري) ود. النور محمد أحمد صالح (من قرية شيخ شريف) والأستاذ/ محمود سوار (من قرية سورتود) لمأدبة ورحلة نيلية بباخرة (أبو رفاس)، وتفاجأنا في امتحان الرياضيات للشهادة السودانية للعام التالي 1967م بمستر سميث يضع سؤالاً بمسألة رياضية في "الجبر" يذكر فيها تلك الرحلة في قرية "ود نميري" ويطلب قياس سرعةٍ ا
![]() |
د. النور محمد أحمد صالح |
ما قياساً على سرعة ذلك "الرفاس". وكان من توفيق الله لنا في اشتغالي بمهام محاسب المدرسة أن اقترحت على المدير/ عمر الصديق شراء احتياجات ضرورية للمدرسة - فقد كانت المدرسة تفتقر إلى مطبعة لطباعة الامتحانات وثلاجة لأغراض ضيافة الزوار، فقد كانت زيارات "الخواجات" من الموجهين والمسؤولين للمدرسة كثيرة - وذلك من فائض تسيير عذاءات المدرسة (الراجعة)، فوافق المدير، فكان أن استجلبنا للمدرسة مطبعة إيطالية و(رونيو) وثلاجة. وفيما بعد تم تكليف محاسب للمدرسة، وجاء مراجع الحسابات للمدرسة فأشاد بالعمل في السابق واتهم ذلك المحاسب بالاختلاس وقال: كانت الحسابات في عهد "المعلم" الذي تولاها أكثر دقةً من عهد المحاسب. وذلك بسبب جهل المحاسب وعدم موازنته بين الإستمارات (الأرانيك)، فهنالك ثلاثة "أرانيك" يتوقف صحة عمل المحاسب على ضبطها، وهي: أورنيك (15) وهو استمارة التحصيل، وأورنيك (67) هو استمارة حصر "الإيصالات"، وأورنيك (40)
![]() |
أ. محمود سوار |
![]() |
بكري حسن صالح |
![]() |
رفعت نجم الدين الحميدي حارس المتواليات الثمانية |
في محاولته مع مسؤول شؤون العاملين بالوزارة واسمه/ بانقا، فاتصل عمنا/ عبد الرحمن بعمي/ صابر عبد الوهاب وأخبره بذلك فرجعت للعمل بدنقلا. غير أن رجوعي للعمل تصادف مع نهاية عمل المدير/ عمر الصديق وتكليف الأستاذ/ ساتي الحاج بإدارة مدرسة دنقلا الثانوية، وتقابلنا ثلاثتنا في الوزارة، فقال المدير/ عمر الصديق للأستاذ/ ساتي أن التسليم والتسلم سيقوم به أستاذ عمر عبد العزيز لأنه كان يتولى كل الشؤون تقريباً في المدرسة، وقد كنت في عهد هذين المديرين مسؤولاً من جدول الحصص العام ومن تأجير البيوت للداخليات ومن توزيع الطلاب في الفصول ومن تحليل نتيجة الامتحانات، وقد خلق ذلك الوضع لي حساسية مع بعض قدامى الأساتذة في المدرسة لكن العلاقة قد تحسنت معهم بمرور الزمن. وواصلت العمل بالمدرسة الثانوية حتى العام 1969م.
كنت قد استدركت توقف مسيرتي التعليمية عند الدخول للدراسة الجامعية، فقررت الالتحاق بكلية الاقتصاد بجامعة القاهرة فرع الخرطوم، وذلك في العام 1969م فدرست بها السنة الأولى عبد القادر تلودي صاحب مدرسة تلودي في الحارة الأولى وكان حينذاك مديراً لمدرسة النصر - وكان الأستاذ/ معاذ السراج عميدها - أطلب منه الالتحاق بالتدريس بالمدرسة لمواجهة ظروف الصرف في الخرطوم، وقام الأستاذ تلودي بمقابلة الأستاذ/ عبد الرحمن عبد الله - مدير التعليم الثانوي - وطلب نقلي إلى مدرسة النصر فرفض الأستاذ/ عبد الرحمن طلبه بسبب الحاجة الماسة لوجودي في دنقلا، فأبرز له أستاذ تلودي طلبي المكتوب ونُقلت للعمل بمدرسة النصر.
![]() |
أ. ساتي علي الحاج |
![]() |
م. رضوان عوض الأفندي |
![]() |
أ. مندور المهدي |
![]() |
أ. محمد سرور |
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق