إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

السبت، 30 أبريل 2022

مربي الأجيال.. الأستاذ/ كمال جابر ... الإنسان العامر (7)

 ‏‏كمال جابر .. ذكرى في قلوب الطيبين (3)

         لقد تميَّز منهج التعليم الإسلامي بوسيلةٍ تعليميةٍ خاصةٍ ابتدعها وهي "الصُحبة"، وذلك أن جعلها مرتبةً تعليمية يتنزل العلم عبرها لمن دونها، سمى القرآن أصحابها بـ"الصديقين" فقال تعالى: }والذِينَ آمَنُوا باللهِ ورُسُلِهِ أولئك همُ الصِّديقونَ{، وسماهم الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ بـ"الصحابة" و"الأصحاب". وهو التعليم بالمصاحبة والملازمة والمشاركة بين المعلم والتلميذ، كما كان دأْبُ أصحاب رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ معه، فتشبهوا بالنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ حتى استعمل القرآن له لفظ "المعية" ـ معه ـ فقال: }محمَّدٌ رسولُ اللهِ والذينَ معَهُ{، كما قال في أتباع إبراهيم ـ عليه السلام ـ }لقدْ كانَ لكم أُسوةٌ حَسَنةٌ في إبراهيمَ والذينَ معه{ . ثم صار المسلمون من بعد ذلك يستعملون هذا المصطلح التعليمي "الأصحاب"، فأصحاب الإمام هم تلاميذه، ولربما قال التلميذ عن علماء مذهبه: قال أصحابنا المالكية أو غيرهم، وهو يقصد بهم علماء مذهبه المتقدمين وأساتذته. وبنى العلماء إنتاجهم العلمي مشاركةً بينهم وتلاميذهم، بل شاركوهم أسلوب حياتهم حتى صاروا نماذج متناسخة بعضهم من بعض، ولربما خالف التلاميذ شيخهم في رأيه فصار رأيهم هو رأي مذهبهم الفقهي لا رأي إمامهم، وهذا كثير عند الفقهاء. فبلغ أثر الأستاذ في تلميذه طابعاً قوياً حتى وصف يحيى بن محمد بن محمد بن أحمد الأصيلي المصري الأديب الشاعر أستاذه بقوله:

 

           فلي مِنْهُ أستاذٌ وَلِيْ مِنْهُ مُرْشِدُ      وَلِيْ مِنْهُ قُطْبٌ ذُوْ اتِّصَالٍ وَلِيْ وَلِي

   كان هذا الذي قدَّمت به تماماً هو منهج أستاذنا الراحل/ كمال جابر في سياسته التعليمية وفي علاقته مع تلاميذه.


الأستاذ/ صلاح إبراهيم عثمان نصر
      ثم إنَّه ما أجمل أن يرى المعلم جميلَ صُنعه ومُضنَي جهده ينبثق من تلميذ كان يذكره لتميزه، أو ذكَّره هذا التلميذ بما تركه فيه من أثرٍ طيّبٍ وغرس فيه من سلوكٍ حميد، فصار يفتخر بإنجازه وصناعته وذلك التحول الكبير الذي أحدثه في إنسانٍ يعترف له بالجميل ويُقدِّره ويشكر له. ذلكم فعلاً ما كان يحدث في شأن أستاذنا وأستاذ الأجيال الراحل/كمال جابر، فقد قدّم وأفضى إلى ما قد قدَّم، وما الذي أسطّرُه إلا قيضاً من فيضه وجزيل عطائه. وخيرٌ مني في حديث التلميذ عن أستاذه وصديقه من بعدُ هو ما جاد بالحديث فيه أستاذنا القدير/ صلاح إبراهيم عثمان نصر، الذي تتلمذ على الراحل، ثم هو {يُجزاهُ الجَزَاءَ الأوْفَىْ} بهذا الحديث الجميل عنه، فقال:(كان رجلاً واضحاً يحترم الحق، ويُصارح بالنصح من غير أذي، ولذلك نال إعجاب الناس. تراه واحداً من الناس يؤاخي طلابه ويشاركهم مناشطهم وبهذا نال حبهم وتقديرهم). وقال:(بدأت معرفتي بأستاذنا كمال عبر جيرة الحي، لكنها معرفة اكتنفتها الهيبة الاحترام والتوقير للكبار، ثم كان رحمه الله تعالى ضمن لجنة المعاينات التي توظفنا عبرها في التعليم، وقد تمَّ توزيعي للتدريس في مدرسة دنقلا المتوسطة معلماً للغة الإنجليزية، ثم في العام التالي تم انتدابنا للدراسة في "معهد التأهيل التربوي" بدنقلا، ذلك المعهد الخاص بإعداد وتأهيل المعلمين، فوجدنا أستاذ/ كمال رحمه الله معلماً فيها لمادة الـصوتيات (Phnoetics )، وفي هذه الدفعة في المعهد زاملتُ الأستاذة/ نعمات عشيري، والتي تزوجها الأستاذ كمال فيما بعد. ومن هنا بدأت العلاقة تمتد وتتعمق بالأستاذ كمال، الذي صار فيما بعد يتردد على مدرستنا متابعاً لطلابه في المعهد. وفي هذه المدرسة "مدرسة دنقلا الأهلية المتوسطة" - حيث كان يعمل بها الأستاذ/ عبد الرحمن محمد عبد الله حسين صديق الراحل/ كمال، فكان ذلك أكثر العوامل التي جذبت الأستاذ كمال لمدرستنا – تعَّمقت علاقتنا بأستاذ/ كمال الذي صار يتردد على المدرسة بكثرة حتى صار أحدنا، مشاركاً لنا في مناشطنا الرياضية، مثل الكرة الطائرة (Volleyball). كما كان أستاذنا/ كمال مهتماً بالغناء، وحيث أني كنتُ أعزف على آلة العود فقد كان كثيراً ما يطلب مني إحضار العود والعزف فيه. وقد كان رحمه الله مجاملاً للجميع من طلابه في أفراحهم وأتراحهم، ومن تلك المناسبات التي وثقتها صور الذكريات مشاركته في مراسم زواج زميلنا وأحد طلابه الأستاذ نصر الدين النور في قريته "جرادة" شمال دنقلا. ثم استمرت علاقتي به منذ عرفته حتى وفاته ).
أستانا الرحل/ كمال جابر مشاركاً في زواج أحد طلابه
الأستاذان/ صلاح إبراهيم وعبد الرحمن محمد عبد الله

       وهكذا كانت "مدرسة دنقلا الأهلية المتوسطة" - أم "مدرسة شرِق" كما كان يحلو لأهل دنقلا أن يلقبوها، بحكم أنها كانت المدرسة المتوسطة التي نشأت في شرق المدينة - مسرحاً مهماً في حياة أستاذنا الراحل/ كمال جابر كما كانت كذلك "مدرسة النميري المتوسطة" التي عمل بها رسمياً فترةً من الزمن كانت من أزهي أيام حياته التي عاصرنا فيها.

الأستاذ/ فؤاد محمد عثمان شيخ
       وعلى ذكر هذه المدرسة، فقد حدثنا أستاذنا/ فؤاد محمد عثمان شيخ - أمدَّ الله في عمره – عن تاريخ المرحلة المتوسطة في السُلَّم التعليمي السوداني، فقال:(كانت الولاية الشمالية في بداية ستينيات القرن الماضي مقسَّمة إلى ثلاث مجالس، هي: مروي – دنقلا – عبري، وكانت حلفا معتمدية تتبع مباشرة للدامرعاصمة الإقليم الشمالي، وذلك للحساسية القديمة بين أهل حلفا والمحس والسكوت. وكان مجلس دنقلا يمتد من الغدار حتى "أبو فاطمة" شرقاً وغرباً، وكان يرأس المجلس "ضابط المجلس" الذي يُعادل حالياً منصب "معتمد محلية" أما "مفتش المجلس" فكان أعلى درجة، فهو يُشرف على عددٍ منالمجالس، وكان ضابط التعليم بمجلس ريفي دنقلا حينذاك هو محمد أحمد جابر، ثم خلفه على ذلك الأستاذ/ محمود أحمد هاشم ثم الأستاذ/ محجوب علي مختار ثم مصطفى علي أحمد ومؤخراً الأستاذ/ محمد عثمان علّام.  

 

         كانت المرحلة سابقاً تُسمى "المتوسطة" و"الوسطى" و"الثانوية الصغرى"، ثم رجع اسم "المتوسطة" في عهد الرئيس/ نميري.  تلي المرحلة المتوسطة في السُلَّم التعليمي المرحلة الثانوية. وكان عدد المدارس الثانوية في السودان أربع مدارس، هي: الخرطوم الثانوية ووادي سيدنا وخورطقت وحنتوب، وكان أولاد الشمالية يتم استيعابهم في مدرسة وادي سيدنا حصرياً.    

       كانت مدرسة دنقلا الثانوية النموذجية الحالية هي "مدرسة دنقلا الأميرية المتوسطة" وكانت أولى الدفعات بها تضم من أهل دنقلا، عبد القادر عبد العزيز الغندقلي وحسن سليم والأساتذة/ عبد العظيم عبد اللطيف وعبد الغفور محمد صديق.

الأستاذ/ محجوب علي مختار يصافح لاعبي نادي الاتحاد

    في الفترة التي امتحنا فيها للمرحلة المتوسطة أو الوسطى كانت في الإقليم الشمالي ثلاث مدارس وسطى، هي: مدرسة حلفا ومدرسة القولد – وكانت مدرسة القولد "أهلية" ولم تكن حكومية، ومدرسة بربر. وأذكر أنَّنا كُنَّا (23) تلميذاً ذهبنا للامتحان للمرحلة المتوسطة في مدرسة القولد الأهلية لقربها من دنقلا. دخل منا المدارس المتوسطة 21 تلميذاً في عداد الـ40 تلميذاً الأوائل، الذين يتم استيعابهم من نحو مائة تلميذ. وكان أوائل الممتحنين جميعهم من دنقلا، وهما: يوسف عبد البيِّن – الذي صار طياراً فيما بعد - ومحمد أحمد بيومي الذي صار طبيباً بيطرياً. وكان هذا من أسباب فتح مدرسة دنقلا الأهلية المتوسطة بين عامي 1958م و 1959م، ليتم استيعاب باقي أعداد التلاميذ الذين لا يتم استيعابهم في المدارس المتوسطة برغم كون مستوياتهم في التحصيل الأكاديمي عالية جداً. ولذلك قرر أهل دنقلا أن يفتحوا مدرسة أهلية، وكان من أعيان البلد يومذاك الذين أذكرهم: محمد عثمان شيخ وحسن عثمان دنقلاوي وأحمد النزهي وصابر عبد الوهاب وعثمان عبده وعبد الكريم عبد الله وعبد الله أبعوف وخليل إبراهيم أفندي. فاجتمعوا وأوفدوا محمد عثمان شيخ للخرطوم لإحضار التصديق لإقامة المدرسة. فذهب السيد/ محمد عثمان شيخ لمقابلة مدير التعليم العام، وقدَّم له الطلب فرفض التصديق بقيام المدرسة، فقال له السيد/ محمد عثمان شيخ: أنا أعلم سلفاً أنك لن تصدِّق لقيام المدرسة، ولكني أُريد تعليقك بالرفض كتابةً لأحمله للسيد وكيل التعليم، حتى لا يُرجعني إليك بحجة تخطيك لا غير، وسأُقابل بعده إن هو رفض التصديق السيد/ وزير التعليم. فعندها غيّر الرجلُ كلامه إلى الموافقة المشروطة، فقال: أوافق بشرط إبراز المقدرة المالية للقائمين بالأمر وبحدٍّ أقلَّ توفيرُ رصيدٍ مالي بمقدار ألف جنيه سوداني. فوافق السيد/ محمد عثمان شيخ وذهب لمقابلة/ صالح بيومي من أبناء دنقلا شقيق حسين بيومي، وطلب منه شيكاً بمبلغ ألف جنيه لإبرازه بغرض استخراج تصديق المدرسة على أن يُرد الشيك بعد التصديق، وهكذا استخرج التصديق بإنشاء المدرسة. ثم قام أهل دنقلا بجمع التبرعات المالية من المواطنين، وقد تفانى أهل دنقلا فيما يُشبه الملحمة لفتح هذه المدرسة إيماناً منهم بأهمية تعليم

المرحوم/ صالح بيومي

أبنائهم. وتمَّ فتح المدرسة في أول سنواتها في منزل السيد/ أحمد النزهي، قبل أن يتم إنشاء المدرسة في موقعها الحالي شرق مبنى "تلفزيون الشمالية". وكانت في مكان المدرسة الحالية "طابية" قديمة قائمة مبنية من الطوب الأخضر القديم المتهالك، وكان فيه تلٌّ من التراب، صار أهل دنقلا يأخذون من ذلك التراب حينما علموا أن المدرسة ستُبني منه، فكان السيد/ محمد عثمان شيخ يأخذ عصاه و"بطاريَّة" – مصباح - كلَّ ليلة فيجلس على ذلك التلِّ حتى تُبنى منه المدرسة.

     وعلى سوء حظِّ أهل دنقلا فقد تعاقدوا مع أول مدير للمدرسة فظهر أنه شيوعي، وهو أستاذ من مناطق الشايقية، فقضى أول عامٍ له فصرفه القائمون على المدرسة، وتعاقدوا مع مديرٍ آخر اسمه/ كامل محجوب فظهر أنه شيوعي كذلك، وأنَّ نائبه الذي تعاقدوا معه أيضاً شيوعي، وهو أستاذ/ آدم أبو سِنينه. وأذكر أنني كنت أستاذاً في المدرسة الأميرية المتوسطة، واختلفتُ مع أستاذ/ كامل محجوب، فتحديته بالرفت من المدرسة وتحداني بالبقاء، ثم ذهب وتزوج من ابنة ناظر المدرسة الأمر الذي أبقاه في إدارة المدرسة الأهلية عاماً آخر.

      كُلِّفتُ مديراً للمدرسة، وكانت المدرسة قائمة على نهر واحد، وذات مرةٍ زار المدرسة وزيرٌ للتعليم اسمه سيد أحمد، وكان زميلاً لوالدي/ محمد عثمان شيخ في المدرسة، وكان والدي حينذاك "سكرتير المدرسة" - ما يُسمى حالياً "رئيس مجلس الآباء" – وأقيم حفل شاي على شرف زيارة الوزير للمدرسة، وخاطب والدي الحفل معدداً صفات الوزير، فتبرع الوزير للمدرسة بمبلغ ألف جنيه، قمت ببناء مَعْمَلَين ومكتبين وبرندة في وسطها بالمبلغ. وبعد الحفل

المرحوم/ محمد عثمان شيخ

تكلَّم والدي مع الوزير في شأن توسعة المدرسة بافتتاح "نهر ثاني" بها، فسأل الوزير متعجِّباً: فيمَ ستستغلون هذا النهر؟ فاستدعاني والدي وسألني أمامه، فأجبت: سأقوم باستيعاب الفصل الأول من الطلاب الجُدد واستيعاب الفائضين من سعة المدارس الثانوية في الفصل الرابع، وهكذا في العام التالي فصلين الأول والثاني حتى يكتمل النهر أربعة فصول. ردّ الوزير على والدي بقوله: طالع زيَّك. فضحكوا جميعاً).

     وعلى ذكر السيد/ محمد عثمان شيخ، فإن لهذا الاسم أثره الكبير الممتد في حياة الإقليم الشمالي عامة ومدينة دنقلا على وجه الخصوص، فإنك تجد صداه في التعليم تأسيساً وتأثيراً، وتجده في الرياضة في اللاعبين الكبار والمخضرمين من آل محمد عثمان شيخ وأصهارهم من آل دنقلاوي. وفي السياسة والحكم والإدارة تترد أصداء هذا الاسم قديماً وحديثاً. فمن هو السيد/ محمد عثمان شيخ؟

     إنه أحدُ الذين أبدعت مدينة دنقلا في إنجابهم للأمة السودانية... إنه من أولئك النفر الذين كرَّسوا حياتهم للعمل العام خدمةً لمنافع الناس وسعياً في قضاياهم العامة والخاصة. فحفر لنفسه وبنيه من بعده تاريخاً حافلاً من العطاء في كل المجالات، وعلى وجه الخصوص مجالي التعليم والرياضة.    
      لقد اختار السيد/ عثمان شيخ محمد ــــــــ "البدريري الدهمشي" القادم من قرية "الكرد" بريف مدينة "الدبة" في شمال السودان ـــــــ مقامه بمدينة دنقلا ليتزوج بها من إحدى نساء "جزيرة بدين"، وهي السيدة/ ست البنات محمد علي، ابنة أحد أمراء جيش الفتح التركي من امرأةٍ دنقلاوية. وقد أنجبت السيدة/ ست البنات للسيد/ عثمان شيخ ابنه/ محمد عثمان شيخ في نهايات العقد الأول من القرن المنصرم.


    نشأ الطفل/ محمد عثمان شيخ نابهاً بين أقرانه، فبدأ دراسته بالمدرسة الأولية بدنقلا، ثم امتحن بها للمدرسة الوسطى فكان أول دفعته، ثم انتقل إلى مدينة "بربر"  ليلتحق بمدرستها الوسطى ــــــ المتوسطة حالياً ــــ ولكنَّه فوجيء مصدوماً برفض القائمين على المدرسة بحجة أنَّ هذه المدرسة لأولاد "بربر" خاصة. وكان يوجد  آنذاك مشرف أجنبي "خواجه" يسمى/ ماكرين، فطلب منه أن يذهب ويأتي السنة القادمة، وتعهَّد له أن يُلحقه بالمدرسة الوسطى وبدون امتحان، فرفض محمد عثمان شيخ وسافر إلى الخرطوم والتحق بالمدرسة الصناعية هناك. ثم كانت نكبته التالية في التعليم أنه وفي يوم من الأيام قام بزيارة صديقه من أبناء دنقلا، وهو المرحوم/ عبد المجيد قناوي الذي كان يدرس بمدرسة "الأعراف"، وفي مزاحٍ أخبره قناوي بأنهم قد أنهوا امتحاناً للرياضات، ثمَّ عرضه عليه، فلمَّا رآه أحزنه أنه فاته لدرجة البكاء حسرةً، مما جعل "الخواجة" مفتش المدرسة يسأل عنه، وعندما أخبروه بأمره طلب إحضاره وأمره بأن يتقدم إلى "السبورة" و "الطبشيرة" ويقوم بحل الامتحان أمام الجميع، فأبهرهم بأجوبته وطريقة حلِّه، وهنا سأله المفتش: هل أنت الطالب الذي رفضته مدرسة بربر الوسطى؟ فأجاب: نعم، فأمر المفتش بأن يُعطى فرصة الإعادة في العام القادم، إلا أن الطالب/ محمد عثمان شيخ رفض العرض ورجع إلى دنقلا نادباً حظه المتعسِّر في التعليم وقرر أن يتجه للتجارة عِوَضاً عن ضياع السنوات.

     رجع السيد/ محمد عثمان شيخ إلى دنقلا واشتغل بالتجارة مع والده الذي كان يمتهن تجارة الحبوب فعمل معه بين المدن والقرى لجلب الحبوب وبيعها.

     وفي أحد الأيام حضر إليهم "عبده حسن" وهو من أهالي دنقلا وكان يعمل آنذاك "مراسلة" بمديرية دنقلا ليخبره بأن هنالك معاينات لشغل وظيفة محاسب بالمديرية، فذهب السيد/ محمد عثمان شيخ للمعاينة وأحرز المرتبة الأولى من بين ستة متقدمين لشغل الوظيفة، وتم تعيينه "مساعد محاسب" وكان راتبه حينذاك مائة وثمانين قرشاً.  ثم تدرَّج  في السلك الوظييفي بالمديرية إلى وظيفة "محاسب".     
       تزوج السيد/ محمد عثمان شيخ للمرة الأولى من السيدة/ حسنى أحمد  إبراهيم أحمد وهي من نساء "حي مراغة" في دنقلا، ووالدتها هي السيدة/ فاطمة عثمان دنقلاوي، وبهذه الجهة امتدت علاقة النسب بين آل محمد عثمان شيخ، وآل "دنقلاوي" من بعدُ.
     وكان للسيد/ محمد عثمان شيخ من السيدة/ حسنى أبناؤه الكبار، وهم: الأستاذ/ فؤاد الذي عمل بمهنة التعليم عمُراً مديداً، حتى تقاعد، ثم انتقل إلى العمل القضائي رئيساً لمحكمة دنقلا الشعبية، وهو أحد أقطاب الحزب الوطني الاتحادي بالولاية الشمالية.
م/ محمود محمد عثمان شيخ

      ثم المرحوم المهندس المعماري/ محمود محمد عثمان شيخ الذي ارتبط اسمه بتصاميم أشهرها داخلياً "إستاد مدينة بورتسودان"، وخارجياً "المدينة الرياضية" بمدينة "أبو ظبي" وبعض المؤسسات البارزة بدولة "الأمارات".

    أما الحاجة/ سارة محمد عثمان شيخ ــــــ عليها رحمة الله تعالى ـــــــــ فهي زوجة قطب "نادي الاتحاد" الرياضي الشهير بدنقلا، المرحوم السيد/ فتحي دنقلاوي، والشهير كذلك بـــ"الوكيل"، إذ كان وكيلاً لمؤسسة "البريد والبرق" بدنقلا.

م/ عبد الرحمن محمد عثمان شيخ
     أما المهندس الكهربائي/ عبد الرحمن محمد عثمان شيخ  الشهير بـــــ"عبده" -بكاليريوس هندسة كهرباء- فقد تخرج في إحدى جامعات روسيا٬ ثم حصل على درجة الماجستير في (الالكتروميكانيك)  ثم عمل بالسودان محاضراً بالمعهد التقني التطبيقي حتى اغترب لدولة الإمارات وعمل بها مهندساً كهربائياً. وهو متزوج  من أسرة  آل  شلقامي  بامدرمان.
  ثم تزوج السيد/ محمد عثمان شيخ للمرة الثانية من المرحومة الحاجة/ خضرة عبد الله علي، وهي من نساء مدينة دنقلا. وقد أنجب منها أربعة عشر ابناً، خمساً من البنات وتسعةَ أولادٍ، هم:    
    الأستاذ/ صابر محمد عثمان شيخ لاعب كرة القدم الذي لعب لنادي النيل بعطبرة، ثم عمل مترجماً بدولة الأمارات فترةً طويلة من الزمان.

    والمهندس الدكتور/ عبد العظيم محمد عثمان شيخ فهو خريج هندسة مساحة وقد عمل بالسودان فترة من الزمن ثم اغترب بالمملكة العربية السعودية وعمل بها مهندساً. وكان مدرباً لنادي الرابطة بدنقلا. وتزوج من إحدى نساء أم درمان.


أستاذ/ مصطفى محمد عثمان شيخ
     والأستاذ/ مصطفى محمد عثمان شيخ الذي عمل بمهنة التعليم وارتبط بعلاقةٍ خاصةٍ بأستاذنا الراحل/ كمال جابر، وورد طرفٌ من ذلك في مقالنا الأسبق.

     والأستاذ/ عبد الرحيم محمد عثمان شيخ الشهير بـــ" بُرعي" كابتن "فريق الرابطة" بدنقلا وصاحب الاسم الأقوي في تاريخ النادي الكروي والرياضي بدنقلا، وأحدُ معلمي مدرسة دنقلا النموذجية الابتدائية، وقد تشرفتُ بأن كنتُ من تلاميذه فيها.

     والمرحوم/ عثمان محمد عثمان شيخ ــــــ وقد تزوَّج من إحدي نساء "حي العرب" الشهير بأم درمان ــــ فقد كان يعمل ضابطاً بــ"جمارك دنقلا"، ثم نُقِل لللعمل بـ"جمارك عطبرة"، ثم كانت فاجعة وفاته المؤثرة في ذاكرة أهل دنقلا إذ أنه وفي إحدى زياراته لدنقلا لقضاء عطلة عيد الأضحى المبارك وفي طريق رجوعه لمقر عمله بعطبره ضلَّت السيارة التي تُقله الطريق بالصحراء فقضوا يومهم من الصباح حتى العصر حيث انهكهم التعب والعطش بسبب سيرهم في الصحراء طويلاً حتى عثرت عليهم "شرطة مروي" وتم نقلهم لمستشفى مروي، وعند مدخل المستشفى كان قد فارق الحياة.

       قد خرج أهالي دنقلا في مشهد مهيب يتلقُون جثمان الشهيد الذي أُحضر بضفة النهر الأخرى من جهة "السليم" وقد أطلقت الشرطة أعيرتها في الهواء تنبّه الناس بمقدم الجثمان حتى ووري الثرى بمقابر دنقلا، رحمه الله تعالى.

      وعبد الله محمد عثمان شيخ فقد غادر السودان بعد نيله الشهادة السودانية ليعمل بالمملكة العربية السعودية، فعمل بها مساعداً لِدكتور/ العربي (استشاري العظام) واستقر به المقام بها.

      ومهندس الطيران/ عبد المنعم محمد عثمان شيخ الذي استقر به المقام بالولايات المتحدة الأمريكية.

     والأستاذ/ كمال محمد عثمان شيخ أحد أشهر لاعبي "فريق الرابطة" بدنقلا وهدافيها.

    وصديقنا وزميل دراستنا الأستاذ/ عبد القادر الشهير بـــــ "قدورة"، وهو آخر نجوم هذا البيت الرياضي من اللاعبين في ساحات الملاعب بدنقلا ونادي "الرابطة" الرياضي بدنقلا خاصةً.

    أما بنات السيد/ محمد عثمان شيخ من السيدة/ خضرة فهم: آمال وسعاد وسميرة وكوثر وعلوية.

   وقد ورِثَ عن السيد/ محمد عثمان شيخ خدمة التعليم أبناؤه الذين امتهنوا هذه المهنة وخلَّدوا فيها أسماءهم مذكِّرةً بعطاء أبيهم في هذا الحقل، فكان منهم المعلمون؛ الأساتذة/ فؤاد وبرعي و"قدورة" وصابر وسميرة ومصطفى.


     لم يأتِ اهتمام أبناء السيد/ محمد عثمان شيخ للرياضة من فراغٍ وإنما ورثةً ورثوها عنه، إذ عُرف عنه مهارته فيها منذ صغره، وقد كان ميدان مدينة دنقلا الرياضي يومها مساحةً تقع بين مستشفى دنقلا القديم ومقر أمانة حكومة الولاية الحالي، فما كان للأندية وجودٌ بمدينة دنقلا في ذلك الوقت. وقد عاصره ولعب معه من أعلام دنقلا السادة/ فراج عبد الله وفؤاد خليل أفندي وأسعد قناوي ومحمد محمد سعيد ناصر.

     لقد عُرف عن السيد/ محمد عثمان شيخ دوره الوطني في الحراك السياسي قبل وبعد استقلال السودان، إذ كان أحد أركان الدعوة الاتحادية في استقلال السودان وكان أحد أقطاب الحزب الاتحادي بزعامة الراحل/ إسماعيل الأزهري.

    تفتق وعينا في الحياة لنرى منزل السيد/ محمد عثمان شيخ مناراً من منارات حي دنقلا شمال، يُعرف به ويُعرَّف. وبرغم مكانة السيد/ محمد عثمان شيخ الاجتماعية ومقدرته المالية غير أنه عاش حياةً بسيطةً في بيتٍ ورثه عن أمِّه "ست البنات" وعاش فيه حتى مماته. كما كانت "جِنيْنة عثمان شيخ" إحدى معالم مدينة دنقلا دهراً طويلاً قبل أن تُحال إلى حيٍّ سكنيٍ يتوسطها.

    ورأينا مِنْ أبنائه مَنْ هو مِلءُ أفواهِ أهل دنقلا وأسماعِها ذكراً حَسَناً لأبيهم واسم عائلتهم. وعِشْنا دهراً طيباً في جوار أبناء هذه الأسرة ومعاشرتهم وصداقاتهم ما سَعِدتْ به الحياةُ ونَعِمت. وطابت بهم مدينة دنقلا في جملةِ أهلِها الطيبين. رحم الله أمواتهم وأمدَّ في أعمار أفرادها وبارك في ذرياتهم.

مدرسة دنقلا الأهلية المتوسطة في فترة من أزهى فتراتها

 
أستاذ/ كمال جابر يشارك أسرة مدرسة دنقلا الأهلية مناشطهم