إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

الأحد، 20 مارس 2022

مربي الأجيال.. الأستاذ/ كمال جابر ... الإنسان العامر (6)

 كمال جابر .. ذكرى في قلوب الطيبين (2)

     كانت البيوتُ في مدينة دنقلا العتيقة ذاتَ أثرٍ في النفوس، وأثرٍ في ذاكرة الأجيال من أهلها.. ومن تلك البيوتِ بيتُ  "الباشكاتب" في المدخل الغربي لسوق مدينة دنقلا القديم، وما أدراك ما سوق دنقلا يومها... ولعل مما زاد وقع هذا الدار في نفوس الذاكرين هو موقعه المجاور لمنزل "السناهير" العتيق الذي ضمَّ فيما ضمَّ قديماً: "النادي الأهلي" و"دار الأخوان المسلمين" بدنقلا، ومهدَ العَلَمِ الإخواني والبرهاني/ جمال الدين السنهوري- أحد الذين أدخلوا فكرة تنظيم "الإخوان المسلمين" السودان، قبل أن يلتزم السجادة الصوفية عبر الطريقة البرهانية. وحيث كان السيد/ علي المرغني ـ زعيم طائفة الختمية ـ يحطُّ مقامه في زياراته لدنقلا في ذلك الزمان، ولعلَّ منها تلك الزيارة الشهيرة للسيد/ علي المرغني في العام 1924م والتي جاء إليها متخلِّصاً من عبء إدانة ثورة "اللواء الأبيض" كما ذكر الدرديري محمد عثمان في مذكراته.
 وفي هذا المقام ترد سيرة الإمام الأول لمسجد دنقلا العتيق - أواخر عهد حكم المهدية للسودان - الشيخ العالم/ سليمان المدني الخزرجي الحافظِ لكتاب الله صهرِ السناهير، والدِ الحاجة "عِيْشه"، وهو رجلٌ يتّصل نسبُه بأهل الحجاز.. نزل قومه بلدة "فركة" في شمال السودان "أرض السكوت"، كما له بقيةٌ في "فِرِّيْق" من بلاد المحس، و"تنقسي" في "وِحدة الغابة" والتي تزوج فيها من السيدة/ الرِّيْلَة، جدة السيد/ جمال الدين السنهوري لأمِّه الحجة "عيشة"، والسيدة/ الريلة هي من أبٍ تركي وأمٍّ سودانية. ويُروى أن الشيخ سليمان قد نُسِب للخزرج باعتبار والدته التي تنتمي للخزرج، أما والده فهو ينتسب للأشراف عن طريق جده الإمام الحسن العسكري. وقد رُويت عن الشيخ سليمان كراماتٌ، منها أنه مرَّ في طريقه لصلاة الصبح على رجلين من دنقلا عُرِفا بالسُكر، وقد طرحهما السُكر في قارعة الطريق، فقرأ عليهما من القرآن فصارا من أعيان مدينة دنقلا وفضلائها صلاحاً وغنىً، ومنها أن تلميذه "الفَحَل" - وهورجلٌ من المغرب - كان قد رأى الشيخ سليمان في رؤيا منامية، رأى فيها مقامه من الصلاحِ والصلة بالله فجاءه وتتلمذ عليه، ثم تُوفي في دنقلا في حياة الشيخ سليمان، وقبره موجود بجوار الشيخ.
السيد/ علي المرغني
           وقد كان منزل الشيخ/ سليمان مدني يُناظر منزل السيد/ أمين شيخ فاضل - صاحب المعهد الشهير باسمه في دنقلا "معهد أمين" لترقية الأداء المهني والفني، وذلك في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي - قبل أن ينتقل المنزل لملكية السيد/ مصطفى عبد الوهاب السيسي شراءً. وقد عُرف الشيخ سليمان مدني وأولاده بالدين والكرم، فقد عُرِف عن ابنته الحجة/ تاتا "فاطمة" أنها كانت تُطعم الفقراء في مجاعة "سنة ستة" وهي المجاعة التي ضربت السودان في العام 1306هـ (خلال الأعوام: 1888م-1889م).  وقد صلَّت مدينة دنقلا أول صلاةٍ للعيد بعد وفاة الشيخ سليمان مدني في مقابر "قيامة" حيث مدفنه وفاءً لذكراه في نفوس أهلها. وما يزال قبره يُزارُ ترحُّماً من بعض أهلها.
       أما والد السيد/ جمال الدين السنهوري فهو السيد/ محمد عثمان عبد اللطيف أبعوف السنهوري - صهر الشيخ/ سليمان مدني- وجده هو السيد/ عبد اللطيف أبعوف أحد أشهر أثرياء تجار السودان يومها، وأحد الذين موَّلوا حملات الإمام المهدي في جهاده ضد الأتراك. ولعلَّ ذلك سبب ادعاء بعض السناهير في دنقلا أنه كانت لجدهم عبد اللطيف أبعوف أملاكٌ من المزارع وغيرها في مدينة الأبيض، ولعلَّ الحكومات بعد المهدية صادرتها منه بسبب تمويله حكم المهدية سابقاً. وليس ذلك بمستبعد سيما وأن علاقة أهل دنقلا بمدينة "الأبيض" في كردفان قديمةٌ ووثيقة، فإن آل "العميرية" مثلاً لها فرعٌ في الأبيض، منهم الفنان الراحل الشهير/ عبد العزيز العميري، وكذلك "الجعافرة" الذين شقوا الطريق بين شرق دنقلا "السليم" والأبيض، وفي ذلك أوجدوا مركزاً لهم في قريتي "شيخ شريف" جنوب دنقلا.
        وقد توفي الشيخ سليمان المدني في مدينة دنقلا في التاسع من شهر رمضان، ما بين عامي 1914م و 1915م، ويُروى أنه صلى عليه خلقٌ كثير، ودُفن بمقابر "قيامه" الشهيرة بحي "إرتدي" بدنقلا.
    ويُروى في سبب مصاهرة السيد/ محمد عثمان عبد اللطيف أبعوف للشيخ/ سليمان المدني وزواجه من ابنته "عيشة"، أنَّ الحجة "عيشة" هذه كانت صديقةً لإحدى أختيه،
الأستاذ المرحوم/ جمال الدين السنهوري

وذات يومٍ دخل السيد/ محمد عثمان بيته فأوَّلُ ما وقعت عينه عليه آثار أقدامها على الأرض، فسأل عن صاحب هذا الأثر فأُخبِر بأنه لابنة الشيخ/ سليمان المدني، فطلب خِطبتَها من ساعته، وتزوجها، وكانت امرأةً صالحة، وأنجب منها السيد/ جمال الدين السنهوري، والدكتور/ محمود السنهوري وعبد الغني السنهوري الذي استقر بالدامر وصار من أعلام التعليم فيها .
       وفي أصل أسرة "السناهير" ومنشئهم بمدينة دنقلا، يذكرون أن جدهم "سيد أحمد السنهوري" قد وفد إلى دنقلا من قرية "البحيرة" في مصر، فجاء وفي معيته زوجته "قمر". وقد أنجب السيد/ سيد أحمد أبناءه: "أبعوف سيد أحمد" - والد عبد الله وعبد اللطيف وعلي ومحمد - و"محمد سيد أحمد" - وهو جدُّ "النزهية" وسبب علاقتهم بالسناهير- وإبراهيم سيد أحمد وعلي سيد أحمد، وهو جد عيدروس عيسى السنهوري وأخوانه..
      وينفي بعض سناهير دنقلا علاقتهم بحاملي الاسم في الأبيض وشندي والمتمة وغيرها من مُدن السودان الشمالي، بينما يُثبت بعضهم علاقةً لسناهير دنقلا بمدينة "بارا" في شمال كردفان التى انتقل إليها السيد/ محمد علي سيد أحمد السنهوري وتزوج فيها من امرأةٍ من قبيلة "الحَمَر" تسمى "التَّايَه"، وقد أنجبت له عيسى السنهوري. كما أن بعضهم يقول إن زوجة أبعوف سيد أحمد السنهوري واسمها "فاطمة بنت الشريف" هي ابنة عمٍّ للإمام المهدي، وذلك مما دعا السناهير عامةً لمناصرة المهدية ودعمها بالمال والنفس. وقد اشتهر باسم "السناهير" عددٌ من البيوتات في عددٍ من مدن السودان.
      وقد تميز "السناهير" في أُسَرِ دنقلا بالتعليم والوعي والمشاركة الفاعلة في قضايا الوعي الوطني والاجتماعي وحبهم للمثقفين والعلماء، فقد ضمت قائمة الشرف لمؤسسي مدرسة دنقلا الأهلية الوسطى ـ والتي كان على رأسها الشيخ/ محمد أحمد جابر والد أستاذنا الراحل/ كمال ـ ومن السناهير السيد/ سيد أحمد أبعوف السنهوري، وأخاه السيد/ أبو عوف عبد الله السنهوري. وقد شكَّلتُ جهود تأسيس تلك المدرسة                                 
المرحوم/ سيد أحمدعبد الله أبعوف

 ملحمةً وقودها الوعي الجمعي لأهل دنقلا الذين تحملوا عبء تأسيسها أهلياً بعيداً عن مساعدة الحكومة إيماناً منهم بحق أبنائهم في فرص التعليم التي ضاقت بها السعة المحدودة للمدارس الحكومية حينها، تلك الملحمة التي سنخصص لسرد تاريخها مقالاً لاحقاً إن شاء الله. 
      كما عرف السودان من السناهير أعلاماً بعد وقبل السيد/ جمال الدين السنهوري، تذكر مدينة دنقلا منهم: الشيخ الحافظ لكتاب الله/ علي أبعوف، أحد صالحي مدينة دنقلا في عهده، وهو أستاذ الشيخ/ صالح الجعفري شيخ الطريقة الجعفرية ـ كما أورد الشيخ صالح في كتابٍ له عن شيوخه. كما عرفت دنقلا من السناهير الأستاذ/ إبراهيم سيد أحمد أبعوف ـ مدير مدرسة دنقلا الأهلية المتوسطة في السبعينات من القرن الماضي - وأستاذ الأحياء بالمدارس الثانوية الدرديري سيد أحمد أبعوف.
             ويُذكر أن د. محمود السنهوري - أحد أكبر جراحي السودان - كان أول من تزوج من امرأةٍ أجنبيةٍ في دنقلا، فقد تزوج من امرأةٍ ألمانية تُدعى "هيلقا" وله منها ولدان وبنت، هم: إبراهيم وفوزي ومنى، وقد تربوا في السودان وارتبطوا
أستاذ/ الدرديري سيد أحمد أبعوف

به، فتزوج إبراهيم من ابنة عمه، وتزوجت منى من أمريكي مسلم ولم تنقطع من زياراتها للسودان بعد وفاة والديها. وللدكتور محمود السنهوري مواقف سياسية مشهودة في عهده في دنقلا حيث كان يقود المظاهرات المناهضة للاستعمار الثنائي الإنجليزي المصري في
دنقلا، الأمر الذي اضطره للهجرة إلى مصر ومنها إلى ألمانيا

 حيث أكمل دراسته للطب بها وتزوج منها، كما أن له - رحمه الله تعالى - موقعاً كبيراً في الطريقة البرهانية. ويذكر بعضُ السناهير عن السيدة "هيلقا" أنها أحبت السودان من خلال زوجها د. محمود السنهوري وأحبت السناهير وعاشرتهم أجمل عِشرةٍ، حفظوا عنها من خلالها كرماً وطيبةً ماثلت طيبة السودانيين، حتى قال محدثي عنها بعفويةٍ جميلة: "الله يرحمها ويُحسِن إليها" برغم كونها لم تعتنق الإسلام.  وكذلك يذكر السودان الراحل الطبيب الإنسان بروفسور/ المهدي محمد علي المهدي أخصائي الغدد الصماء والسكري، فهو ابن هدى عبد اللطيف أبعوف
بروف/ المهدي محمد علي المهدي

السنهوري
وزوج السيدة/ إلهام إبراهيم سيد أحمد أبعوف. والخبير الأممي/ عبد الله عبد اللطيف السنهوري شقيق الخبير الزراعي/ عثمان عبد اللطيف السنهوري الذي شنَّف أسماع المزارعين في الولاية الشمالية عبر برنامجه الإذاعي الشهير في الإرشاد الزراعي، وعبارته الشجيَّة:(إخواني المزارعين)....  
   وفي هذا الصدد فقد ذكر لي بعضهم ما قد سمعتُ والدي يذكر طرفاً منه، وهو أن والدنا "الشيخ أبيض" حينما وفد إلى دنقلا تنافس على مجاورته لهم كلٌ من السيد/ سيد أحمد عبد الله أبعوف السنهوري والسيد/ محمد صالح إبراهيم، فعرضا عليه شراء أجزاء من مساحات منازلهم الواسعة، فاختار الوالد مجاورة السيد/ سيد أحمد أبعوف - صاحب المكتبة الثقافية يومها - وقد سمعت والدي يذكره بحفاوةٍ بالغةٍ وتقديرٍ شديد، بكونه أحد خريجي كلية غردون حينذاك. 
الحجة/ نفيسة محمود عبد السلام (رحمها الله تعالى)
         وقد عشنا دهراً في جوار هذه الأسرة الكريمة
ننعم بطيبة تلك المرأة التي مثَّلت دوحةً من العشرة الطيبة، وهي الحجة/ نفيسة محمود عبد السلام ـ زوجة السيد/ سيد أحمد أبعوف، وزوجه الأولى حجة/ قمر محمد عثمان عبد اللطيف أبعوف. وحولنا من أسر "السناهير" رتعنا بينهم عِرفان الإنسان وإيلاف الزمان، ورحم الله سالفيهم الذين صدق فيهم قول إمام الأحناف/ الحسن الميرغناني:
  سقى اللهُ أجداثاً أجنَّتْ مَعَاشِرًا
                       لهم أبحرٌ مِنْ كلِّ علمٍ زواخِرُ
فقد كان علمهم بالحياة رائعاً وجوارهم ماتعاً. فأما حجة/ قمر محمد عثمان، فهي من "السناهير"، وهي والدة أبناء السيد/ سيد أحمد أبعوف الكبار، وهم الأساتذة: إبراهيم وطيفور والدرديري، ورتيبة وإحسان وإخوانهم. وأما الحجة/ نفيسة، فهي نفيسة محمود عبد السلام
الرحوم/ حسن عيسى السنهوري

الشامي
، وهي من رموز نساء دنقلا اللائي يُدلُّ بهن مسؤوليةً وشهامةً، فبعض نساء دنقلا كنَّ بأوزان الرجال الثقالِ وَقْعاً وأَثَراً في الحياة، ومن هؤلاء هذه السيدة التي خلَّف لها زوجها بوفاته تركةً من البنين والبنات، فقامت بحق تربيتهم كأعدل ما يقوم الرجال، علماً
وخُلُقاً وسيرةً حسنةً بين الناس.

   ألا رحمها الله بقدر ما أوفت من حقوق الجوار والرحم والإنسانية. وهي والدة أبناء السيد/ سيد أحمد أبعوف الصغار؛ سهير وزينب "بنت الشريف"ـ رحمها الله تعالى ـ ود. محمود ومحمد ود. عبد السلام وصالح ود. صالحة وسكندري. ثم هي عمة المرحوم/ يوسف عبد السلام
محمود
المرحوم/ يوسف عبد السلام محمود

الشامي
أحد أشهر حواريي جدنا الشيخ/ حاج سعيد أحمد ـ آخر شيوخ خلوة جدنا/                                                  
علي حاج سعيد المغربي لتحفيظ القرآن بقريتنا "شيخ شريف" جنوب دنقلا..       وقد أورد الأستاذ/ مصطفى طه على محمد دارنتود في مدونته الإلكترونية سلسةً من نسب  سناهير دنقلا..     
محمد سيد أحمد أبعوف
و"الباشكاتب" ـ على رواية بعض أهل دنقلا ـ هو أحد الذين وفدوا إلى مدينة دنقلا على عهد التركية في السودان، وصار كاتباً للحاكم التركي على المدينة، وهو رأس أسرة "الباشكاتبية" التي تضمُّ فروعاً لها في المدينة مثل بيت "السَّوَاريْخ". ولهم مع "السناهير" مصاهرةً وقربى.
وفي سبب قيام هذا البيت الكبير وأصله فقد حدثني العم/    عوض عبد اللطيف بابتوت - وهو من أعيان قرية "شيخ شريف" ومن المنتسبين لبيت الباشكاتب عبر جدته "سِعْدة" - وقصَّ عليَّ خبره، فقال:( كان السيد "مصطفى الباشكاتب" هو الحاكم من قِبَل الأتراك لمدينة دنقلا وما جاورها، و"الباشكاتب" هو لقب الحاكم الذي رسخ منذ ذلك الوقت وحتى يومنا هذا لقباً للحكام في بلادٍ مثل موريتانيا بفضل الحكم التركي.                                   

العم/ عوض عبد اللطيف بابتوت
الوالد/ شيخ أبيض (رحمه الله)
 وقد عاصره في فترة حكمه السيد/ أحمد الحاج بشير وهو أحد رجالاتِ أسرةٍ انتشرت بين قُرى "سوري" و" شيخ شريف"، وقد كان وجيهاً في قومه، مُفوَّهاً إذا خاطب، مُقدّماً في المحافل. فأحبّ السيد/ مصطفى الباشكاتب أن   يُصاهره فزوّج ابنه السيد/ محمد مصطفى الباشكاتب من آمنة أحمد الحاج بشير وأنجب منها ابنته/ سِعدة محمد مصطفى الباشكاتب ثم طلَّقها وتزوج امرأة من قرية "أبو حراز" جنوب الخرطوم وأنجب منها الأستاذ/ أحمد محمد مصطفى الباشكاتب والد الأساتذة/ عكاشة ومنصور وإخوانهم.

الأستاذ/ منصور أحمد باشكاتب
  ثم تزوج امرأةً أخرى من" السادة الأدارسة" وأنجب منها السيدة/ خديجة محمد مصطفى الباشكاتب
   أما "السواريخ" ـ وهي تلك الأسرة الكبيرة المشهورة في مدينة دنقلا ـ فهم أبناء السيد/ محمد عثمان مصطفى الباشكاتب وهو الأخ غير الشقيق لمحمد مصطفى الباشكاتب . ومن كلٍ كان للباشكاتبية فروع فتأسس بهذا ذلكم البيت الكبير من بيوتات دنقلا" وصاهر الباشكاتبية بعض أسر دنقلا العريقة فاتصلت سيرتها بهذه الأسرة، منها آل الكيال وآل أبو الحسن وغيرهم من الأسر ...
       ولأهل مدينة دنقلا رواياتٍ في قصص وأسباب نشأة أسرها العريقة، فمن ذلك ما يرويه بعضهم عن الإخوة الثلاثة من ذوي المهن الذين نزلوا مترافقين مدينة دنقلا وهم "أَفَنْدِي" و"شَاوِيش" وثالثهم "نُزَهِي". فـ"الأفندي" صار معلماً في المدرسة التركية الأولى التي تحول اسمها إلى "مدرسة السعادة" فيما بعد، وهي إحدى المدارس الأولى في السودان على عهد التركية. وصار ذلك "الأفندي" رأس أسرة "الأفندية" في دنقلا . و"الشاويش" من الإخوة صار حارساً لمكاتب الحكومة التي عُرفت فيما بعد باسم "المديرية"، وصار رأس أسرة "الشاويشية" في دنقلا أما "النُّزَهي"، فيُقال أنه لم يمتهن مهنةً وإنما جاء متنزهاً سائحاً واستقر وصار رأس أسرة "النُّزَهِيَّة" بدنقلا..

        لقد كان دار "الباشكاتب" من مراتع شباب دنقلا دهراً من الزمان الجميل.. وكان الأستاذ الراحل/ كمال جابر هو أحد عُمَّارِه أُنساً وعُشرةً وهُياما... لقد كان الأستاذ زميلاً وصديقاً حميماً لابن الدار الأستاذ/ عكاشة أحمد باشكاتب.. وكثيراً ما كان" ديوان أحمد باشكاتب" هو مأوى أُنسهم، ودوحةُ صفائهم.

الأستاذ/ منصور أحمد باشكاتب
      جلستُ إلى أستاذي القدير الأستاذ/ منصور أحمد باشكاتب فحدثني في شأن الأستاذ الراحل/ كمال جابر فقال:( كان الأستاذ كمال رجلاً لا يظلم ولا يُظلم... كان لا يحب الظلم.. وكانت هذه في مشكلة حياته التي فسرها بعض الناس جهلاً بأنه كانت له ميولٌ اشتراكية.. وكان يحلم بتحقيق العدل وكبح الظلم وسوء الاستغلال، وكان صارماً في ذلك.. ولم يكن شيوعياً أبداً.. بل كان صواماً مرتاداً للمساجد..  كان رجلاً ذا أخلاقٍ كريمة، كان مثالاً أخلاقياً فريداً..وكان مثل أبناء جيله الممتلئ ثقافةً وعلماً وبكل معاني الحياة...

الأستاذ/ توفيق حسن عبد الغفار
 فإذا جالَسْتَه أمْتَعَك بشتَّى صُنوفِ الثقافة والعلم، وبما في ذلك الثقافة الدينية والرياضية، والغناء السوداني سيَّما غناء الحقيبة.. مُلِمّاً بكثيرٍ من أشعارها ومواقفها، فكانت مجالسنا هي منتدياتٌ عامرةٌ بالشعر والأدب والغناء والثقافة والإسلاميات والفكاهة... وكان - رحمه الله تعالى - بالإضافة إلى تميُزه في التعليم إدارياً منضبطاً في عمله، مديراً أو موجهاً.. وقد زاملتُه في مراحل عدة في حياته، وعملنا سوياً في التعليم برغم أنه أسنُّ منَّا... وقد جمعتنا أمور أهمها النادي الأهلي والصداقة.. أما العمل فقد ضمتنا "مدرسة النميري المتوسطة" معلمين منسجمين أشد الانسجام..

        لم تكن لنا انتماءات حزبية، لكنَّ الأستاذ الراحل كمال جابر لم يكن في ارتياح للأحزاب التقليدية، وكان يُطلق عليها في ذلك الزمان "الأحزاب الرجعية"، وعلى الرغم من وجوب الأحزاب صفة عامة يمينيةً ويسارية غير أننا كنا نؤيد التيارات أكثر من الأحزاب... وأنا شخصياً كنت أؤيد "القوميين العرب" ومعي الأستاذ الراحل/ توفيق حسن عبد الغفار.. فقد كنا شديدي التأثر بالرئيس الراحل/ جمال عبد الناصر وخطاباته. وشعارات القومية العربية وذلك قبل أن نكتشف زيف تلك الشعارات وأنها أبعد ما تكون عن واقع العرب سيما في خليجهم العربي...

الرئيس الراحل/ جمال عبد الناصر

 وعلى الرغم من اختلاف انتماء الأصدقاء لم يكن لذلك أي أثر سالب في حياتهم الاجتماعية بل على العكس من ذلك كان أثر تلك الانتماءات إجابياً في التجائهم للتثقف والاطلاع بالإضافة للأثر الكبير للنادي الأهلي في جمع أهل دنقلا اجتماعياً، وكان محل اجتماع أعيان مدينة دنقلا الكبار أمثال الزعيم/ "عبد الكريم أحمد عبد الله" والسيد/ "محمد عثمان شيخ"، وكانت لهم اهتمامات سياسية على عهد الإنجليز وما بعدهم، فقد كان النادي الوحيد في دنقلا، وذلك قبل ظهور الناديين "الاتحاد" و"الرابطة"، فقد شاع في تلك الآونة على ألسن الناس أن "فتحي عبد الحي الطاهر" انشق عن النادي الأهلي فكوَّن نادي الاتحاد، وأن "فتحي حسنين النجار" قد انشق عن النادي الأهلي فكوَّن نادي الرابطة.. كانت دنقلا مدينة صغيرةً جداً.. لقد كانت فترة إدارة الراحل/ كمال لمدرسة النميري فترة زاهية اتسمت بالمشاركة والتفاعل التكاملي بين الزملاء، وزاد في ذلك انسجاماً اعتدال الراحل كمال جابر في معاملة جميع العاملين معاملة واحدةً أساتذةً وعاملين، وكانت                  

الزعيم/ محمد عثمان شيخ


نوعية التلاميذ في تلك الفترة تختلف عنهم اليوم، فقد كان المعلم يواجه طلاباً على قدرٍ كبير من الشجاعة الأدبية والنقد، مما يجعل المعلم يرتقى لمستوىً متميزٍ جداً... وافقت فترة إدارة الراحل/ كمال جابر لمدرسة النميري قيام ثورة أبريل ١٩٨٥م وتغيير حكم الرئيس النميري بثورة شعبية فقام الراحل/ كمال جابر بتغيير اسم المدرسة من "مدرسة النميري المتوسطة" إلى "مدرسة الشعب المتوسطة") .. 

    وعلى ذكر قيادات دنقلا المجتمعية في ذلك الزمان، فقد حفلت المدينة بأمثال القيادي المجتمعي والسياسي الاتحادي الراحل/ عبد الكريم عبد الله عبد العال الفيومي، الذي تذكر له ذاكرة تلك الأجيال مشاركته وتمثيله لأهل دنقلا سيما الذين ناصروا التيار الاتحادي في السياسة السودانية. كما أُثِرت عنه المواقف الشجاعة في الدفاع عن حقوق أهل دنقلا، والسعي في كلِّ مشروعٍ يحقق النفع العام، وكان أحد المؤسسين لمدرسة دنقلا الأهلية الوسطى التي سبقت الإشارة لها.

         ومن أصدقاء الراحل ورفقائه في درب التعليم ورحلة العمر الأستاذ القدير/ عبد الرحيم عبدربه محمد سليم، الذي تميزت علاقته بالراحل بسبب المزاح العنيف الذي كان يربط بينهما فلا يزيد ما بينهما إلا مودةً وقُربة. يحدثني أستاذ/ عبد الرحيم عن الراحل الأستاذ/ كمال جابر، فقال:( كانت صداقتي بالراحل/ كمال جابر قوية، وكذلك الحال بأخيه الراحل عبد المنعم، وكان كمال جابر ينعتُني بـ"عبد الرحيم المسيخ" من كثرة مزاحي العنيف معه. وكانت مجموعتنا تشمل عدداً من المعلمين، وهم: شخصي وحسن طه العميري والراحلَيْن؛ كمال جابر وتوفيق حسن عبد الغفار وسعيد صالح علي سليم ومحمد سعيد محمد علي وعبد الجليل عبد اللطيف. ولم تكن صداقةً عادية، فقد كان لنا وجدانٌ

الزعيم/ عبد الكريم عبد الله الفيومي

واحد، فقد حدث أن اجتمعنا في يوم زواج الراحل/ كمال جابر فتنبِّأ الأستاذ محمد سعيد بأن يكون أول الراحلين عن الدنيا من مجموعتنا هذه هو الأستاذ/ كمال جابر، وقد كان ما تنبأ به، فصار الأستاذ/ توفيق حسن عبد الغفار كلما قابلني قال لي: تبقى منّا أربعة، تبقى منا ثلاثة، وقبل موته بأيام قابلني فقال لي تبقينا أنا وأنت، ثم توفي أستاذ/ توفيق مؤخراً رحمه الله ). ( كان كمال جابر ـ رحمه الله ـ شاعراً يكتب في الإخوانيات، وكم جلسنا نتندَّرُ بقصائده التي تصوِّر المواقف الجميلة عُشرتنا تلك)، (كان الراحل كمال جابر ـ عليه رحمة الله ـ مؤدباً جداً، فقد حدَثَ أن كان لي صديق يعمل ترزياً في سوق دنقلا، وذات مرةٍ وهو يجالسني أنْ مرَّ مِن على البُعد الراحل/ كمال جابر، فهمَمْتُ أن أُناديَه فمنعني ذلك الصديق، وأبدى كُرهاً له، فسألته عن سبب ذلك فلم أجد له سببٌ فَسَكَتُّ. ثم دارت الأيام وتكرر جلوس ذلك الصديق فمرَّ بنا الراحل كمال جابر فدعوتُه للإفطار، فلمَّا حضر سألته فقلتُ: هذا الرجل يكرهُكَ جداً فماذا فعلتَ له؟ فأنكر صديقي ذلك واقسمتُ له بذلك. فلم يزد أستاذ كمال على أن تبسَّم فكان ذلك سبب صداقتهما بعد ذلك). 

    

الأستاذ/ عبد المعطي هاشم (رحمه الله)

الأستاذ الراحل/ عباس الأفندي (رحمه الله)




الأستاذ الراحل/ مصطفى محمد يس



الأستاذ الراحل/ سيف الدين عبد الجليل

الأستاذ/ عثمان عبده خالد
وقد زامل الأستاذ الراحل في مدرسة "النميري المتوسطة" ـ مدرسة الشعب ـ عددٌ من

خيرة معلمي مدينة دنقلا (مِنْهُمْ مَنْ قَضَىْ نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ)، منهم الأستاذ الراحل/ عباس محمد حسن الأفندي، والأستاذ الراحل/ عبد المعطي هاشم عبد الحميد والأستاذ الراحل/ سيف الدين عبد الجليل وعلى رأسهم الأستاذ الراحل/ مصطفى محمد يس، ومنهم الأستاذ/ عثمان عبده خالد (أطال الله بقاءه).