إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

الأربعاء، 19 ديسمبر 2012

في رثاء الأستاذ المرحوم/ مصطفى محمد يس


يـا نـازلاً "قياما"      وقـائـماً هُيـامـا
في الأنفسِ الحزينةِ     المهزومةِ انهـزاما
فالدهـرُ لا يزالُ       يُسيمـهـا الحِـمامـا
والجمعُ لن يصيبَ      من بعده انضماما
والمرء إن يخاللْ       يُكابدِ الفِطاما
وقـلّ أن تجـدْ        في خِلقةٍ دواما
يا بانيَ الأجيالِ         في عزمهم هُماما
الجيلَ حذوَ الجيلِ       مُسترشِداً إمـامـا
تكلّمت أيّامكم           فأفصحت أيّاما
روائعاً ذوائعاً          في خيرنا دواما
يا فَرْطَ من تدنَّى       وفَـرْطَ من تسامى
يا مفتيَ "الإعراب"     فِعالاً اْو كلاما
ومنصفَ المعاني       من وُجْدِنا فِهاما
في الشعر والآداب     ومَنْ لها تحامى
قد أشكلت مواقفٌ      تضمّنت ظـلاما
والحرُ لا يزال         في دينه سَـناما
تبدّتِ الليالي           من بعدكم قِـتامـى
تعطّلت من بعدكم      شـؤونها تماما
فالأنس غاض عنها     واستغرقت إيْـلاما
ودالـتِ السنونُ        فأعقبت أعواما
فـعُدَّت الـمُروءةُ     مـعـرَّةً وذَامَا
و"النحو" لم يجدْ        مِن بعدكم قِواما
للألسن المعطوبةِ       المعتلـةِ انجزاما
واستوحش القريض     أبيـاته يـتامـى
من دنقلا الـكلـيمةِ    إليكمو سلاما
معبّقاً من روحكم       مخلّصاً أنساما
ترحُّماً لروضكـم       مُغَدَّقاً غماما
يا شمسَ ساكنيها        وبـدرَها التماما
يا مانحَ الأزواجِ        في عقدهم إماما
من بعدكم جموعها      تشطَّرت فِئاما
فصالحيها زمرةُ        وميزت لئامـا
الخير يصطفيها         محقِّقاً قـياما
استوطن الإسلامُ        روادها القِـدامى
فأفرضوا مَن بعدهم     مِن خيرهم سهاما
العلم سـاح فيهـا      فأنتجت "علَّاما"
"السيِّد الإدريسـي"      وعترةً كِراما
وعالماً مـبجّلاً         "شيخي علي الإماما"
و"دُتْشِ" و"البَكَّايا"          مَـن دمعُه تَهامى
وذلك "الإِحْميدي"          من أظهر الـكَراما
و"الحافظ السنهوريْ"    و"كامل" المِقـداما
و"الجعفريَ" صـالٍ     "وصالحاً" مناما
و"صابرَ" ابن "السِّيسي"    الباذلَ الـجَمَاما
واذكر "الحِميدي"          الفارسَ الصمْصـاما
و"حافظَ الأمـينَ"       مَن ذكـرُه تنامى
و"وصْفِيَ" المُجيدَ       في الشعر والشَّهاما
و"شاكر"الإماما            الناسك الحماما
فلْيَهْنَكِ الجِوارُ          مسلَّماً مُـقـاما
في زمرة الخِيارِ        ممن حوت "قياما"
وصائراً لموْعدٍ          يا أبا "أساما"
د. محمود محمد أحمد علي     يونيو 2012م

الأحد، 16 ديسمبر 2012

أحمد علي الإمام....بشاشةُ المُحيّا ومَلاحةُ الكلام


لم أسمع بحديث رسول الله r "من عباد الله من إذا رأيته ذكرت الله" ـ أو ما معناه ـ إلا من أحد الصوماليين الذين رأى أحمد علي الإمام فبادره الحديث فذكره، لقد كان بحق تذكّر رؤياه رب العزة مما وهبه وحباه من بهاء وبشاشة تجد راحتها في نفسك إذا ما رأيته. وقد فكرت ساعة في سرّ طلعته البهية أهي من ذكر الله U الذي أعلم مداومته عليه سراً وعلانيةً أم مما يحمل من تداخل القبائل والأفخاذ، فهو الدنقلاوي الجعلي وهذا حدّ علمي وقد يزيد. لكني أرجح الأول فعلمي بالشيخ في ذلك الأمر دقيق، فهو عميق الأثر والعبارة إذا ذكر الله ورسوله.
ومن طرائف ما علمت من شأنه أن أحد الضيوف على السودان ممن يحمل إحدى الجنسيات العربية ـ وكان ذا معرفة لدى أهل بيت الشيخ ـ اتصل يوماً من أيام رمضان بمنزل الشيخ سائلاً عن مكان إفطاره اليوم فأُخبر أن برنامج الشيخ لم يُعلم بعدُ، فطلب الاستفسار ريثما يُعاود الاتصال مساءً ليعلم الخبر، ولمّا أخبر بمكان إفطار الشيخ قال لهم إنه رأى رسول الله r مناماً فدعاه للإفطار معه فاعتذر سول الله r بأنه اليوم يُفطر مع أحمد علي الإمام.
وما عُلم من شأن الشيخ في آخر حياته أنه كانت تأخذه رِعدةٌ من ذكر الله U إذا ذكره أو ذُكر عنده. وكان رحمه الله محتفياً بسيرة رسول الله r حتى أسس له منتدىً أسبوعياً لسيرته r باسم "مجلس السيرة النبوية".
ولحديثه رحمه الله تعالى طلاوة يجدها المستمع له، فقد كان رحمه الله أديباً يعلم من فنون القول ما يستميل به سامعيهن لكنّ ذلك لم يكن سرّ ميل الناس له، فقد قال يوماً في محضر نقاش لبعض الرسائل الجامعية "من أراد أن يُوفق في حديثه فلا ينشغل قبله بالتزوير ـ أي بترتيب ما يود قوله ـ لكن يشغل قلبه بذكر الله U يوفقه الله U في حديثه بأكثر مما كان يأمل منه" أو قولاً في هذا المعنى. فقد كان سرّ بركته من ذكر الله. وأنت تسمع لقوله في المعاني فكأنما تراها تتمشى من أمامك من شدة ولهه بالحق وثقته في الله تعالى وحبه لرسول الله r.
وقد كانت له ملاحة يُزجي بها حديثه، فمن ذلك أنه كان يستشهد ببعض أقوال المغنين، فقد سمعته في بواكير عهدي به وهو يتحدث في أحد مساجد "دنقلا" ـ وهي يوم ذاك غارقة في التبعية الطائفية بين بيتي "الختمية" و "المهدية" مع ما ظهر من بعض رموزها من المنكرات، فعاب على الناس اتباعهم بنقد قول المغني (لَمَّ الريْدْ يِفُوتْ حَدُّ يِبقى مصيرنا في يَدُو) قائلاً كيف يسمح المرء لنفسه أن يكون حكم أمره في يد غيره.
فأنت تجلس أمام الشيخ تجد المتع من كل ناحيةٍ من وجهٍ وضيئٍ وكلامٍ شجيٍ وأنسٍ بالعلم والحكمة وأطايب الحديث.
رحم الله شيخي أحمد علي الإمام كان دنيا وديناً

الثلاثاء، 20 نوفمبر 2012

أحمد علي الإمام....حياة عشتها وإيمان وجدته



* ما أفضل أن يترك آخرٌ فيك آثاراً تجدها في نفسك أنى اتجهت في الحياة...ما أروع أن تذكر آخرَ بالتقدير الذي وجدته منه وأنت طفل لا تملك في الحياة ما تستحق به التقدير، ولكنه عطاءٌ من ذات عُرف التقدير ركناً فيها.ما أروع أن يهبك آخر الانتباه لطرق الحياة المتعددة جِداً ومرحاً وتندراً وعلماً واجتماع.
ما أروع أن تجد آخر في نفسك دفئاً أبوياً... وصداقة أنداد... وتواضعاً بالاستشارة  والنقاش.
* لقد سلبني الدهر بفقد أحمد علي الإمام مذاقاً للحياة، وميداناً في العمر مارست فيه ذاتي، وقدوةً أسرتني بالتقدير الفياض.
 ما أشد حيرتي فيما أفعل...أأكتب الشعر تأسياً بالخنساء؟ أم أعتزل الناس كهروب المعري.. أم أنكرهم ككفر الحطيئة بالغير.
حسبنا الله ونعم الوكيل...ولا حول ولا قوة إلا بالله

السبت، 10 نوفمبر 2012

مجالس المرحوم الأستاذ/مصطفى محمد يس(7) شخصيات في الذاكرة والذكر(1)

لست بصدد الحديث أو الترجمة لعدد من رموز مجتمع مدينة دنقلا من روادٍ للتعليم وسياسيين وغيرهم بقدر ما أنا معنيٌ في هذه السانحة بالتذكير بهم في صدد الذكرى التي لا تفارقني من ذكريات شيخي الراحل/ مصطفى محمد يس رحمه الله تعالى. فما كان مجلسه يخلو من ذكر أحد الفضلاء وإتحاف السامعين لقطفٍ من آثاره وسيرته، على تلك الطريقة الفريدة التي كان يتمتع بها الراحل في نقل الإعجاب، وكانت مداخله للحديث عن الشخصيات جاذبة، فتصديره للكلام بلفظة "أوووه، ده إيه ده" كانت كفيلة بملك الأسماع وشدِّ الانتباه.
وممن سمعت ذكره على لسان الراحل عدد من الأعلام ضمّنت كثيراً منهم مرثيتي التي رثيت فيها الراحل. ولم أستطع في مدونتي إيراد الهامش الذي أترجم فيه لأولئك النفر، فقدّرت أن أشير إليهم هنا، مع ذكرٍ قليل لعل لغيري بهم معرفةً أكثر يوردها تعليقاً.
من أولئك الذين سمعت بهم من شيخي الراحل/ مصطفى محمد يس ذلك الرمز المعروف في مدينة دنقلا باسم "علاّم"، أحد أعلام التعليم المؤسسين، وقد تردد هذا الاسم في فترات باكرة في أسماء الفصول في مدارس دنقلا.
ومن أولئك الأعلام في مدينة دنقلا السيد الشريف الإدريسي رائد الطريقة الإدريسية في السودان، وأولاده المعروفين باسم "الأشراف"، وقد عُرف أكثرهم بالتقوى والورع والكرم، ومقارُّهم مشهور في الولاية الشمالية في أكثر من مدينة منها دارهم الشهير باسم "دار الأدارسة" في مدينة دنقلا.
ومن أولئك الأعلام الذين أكثر الراحل من ذكرِهم شيخُه في طفولته الشيخ/ علي محمد عبد الله المشهور بالشيخ "علي الإمام" هو إمام مسجد دنقلا العتيق، وهو والد البروفسور الراحل/ أحمد علي الإمام. وهو أول من تلقى المرحوم/ مصطفى محمد يس العلم على يديه، وكان كثير الذكر له. ومما أكثر ذكره له معرفته بعلم "النحو"، وكان كثيراً ما يردد مقولةً للشيخ/ صالح الجعفري ـ أحد أعلام مدينة دنقلا الأزهريين :( قلّ من فهم النحو في الأزهر الشريف مثلما فهمه الشيخ/ علي الإمام)، ويروي عنه الراحل الأستاذ/ مصطفى يس نكتةً في الإعراب من إعراب قول الله تعالى: ﭽ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗﭼ. منوِّهاً بالبراعة وسعة الأفق والفلسفة القيِّمة في علم النحو، يقول كلاماً نحو هذا: "تِ" اسم إشارة مبني على الكسر في محل رفعٍ بالابتداء، والـ"لام" للبُعد، والكاف حرف خطاب لا محل له من الإعراب. "الرسلُ" مبتدأ ثاني مرفوعٌ بالابتداء، وعلامة رفعه الضمةُ الظاهرةُ على آخره. "فضّلنا": فضّل فعلُ ماضٍ مبني على النصب، و"نا" ضميرٌ مبني على السكون في محل رفعٍ فاعلٌ. "بعضَهم": "بعضَ" مفعولٌ به منصوب بالفعل الماضي، والهاء للإشارة والميم للجمع، "على" حرفُ جرٍّ، و"بعضٍ" اسمٌ مجرورٌ بحرف الجر، وشبهُ الجملة من الجارِّ والمجرور لا محل له من الإعراب، والجملة الفعلية في محل رفعٍ خبرٌ للمبتدأ الثاني. والجملة الاسمية من المبتدأ الثاني وخبره خبرٌ للمبتدأ الأول.
وقد توفي الشيخ/ علي الإمام في دنقلا وهو مقبورٌ في مقبرة الشيخ/ منصور بمدينة دنقلا.
ومن أولئك الأعلام الأستاذ المرحوم محمد عثمان الذي اُشتهر بلقب "دُتْشْ"، من قرية "سالي" جنوب دنقلا، أستاذ اللغة العربية بمدارس دنقلا. كان المرحوم/ مصطفى يُكثر ذكره ثناءً على علمه. ومما ذكره عنه تعلُّمَه اسم المكان والزمان من الفعل معتلّ الوسط، نحو: طار، مطار وما فيه من إعلالٍ وإبدال.
ومن أولئك الأعلام عبد الحميد صالح المشهور بـ"البكّاي"، من قرية "كابتود" شمال دنقلا، كان من جُلساء حلقة الشيخ علي الإمام، اشتهر بالبكاء في.حلقة الشيخ حتى ظهر ذلك في أهداب عينيه، وكان المرحوم يُكثر ذكره.
ومن أولئك الأعلام حسن أحمد حامد المشهور بـ"حسن إِحْميْدي" أحد تلاميذ الشيخ علي الإمام وإمام مسجد دنقلا العتيق بعده، كان ضريراً وأبصر بعد كرامةٍ مشهورةٍ عنه. وقد كانت لي به معرفةُ وتلمذةً إذ كان عميداً لكلية الشريعة والقانون التي كنت أدرس بها في جامعة القرآن الكريم، ثم أدمتُ زيارته والجلوس إليه في داره بحي "الصافية" في الخرطوم بحري.
وقد كان رحمه الله تعالى موسوعةً علميةً، يختصر جملةً من المعارف للمتلقي في قولٍ مختصر. ومما أذكره له أني التقيته في أول لقاء لي بأجهزة الجامعة ـ جامعة القرآن الكريم ـ بعد أن توليتُ أول رئاسة لجمعية القانون بكلية الشريعة معرِّفاً بنفسي وبأغراض الجمعية ومعي بعض الأخوة، فلما أخبرته بغرضي تلا علينا أبياتاً من قصيدة لا أذكرها، ثم قال هذا هو باب الجنايات في الفقه الإسلامي اختُصر في أبيات من الشعر. ثم أوصانا بالحرص على العلم. وانصرفنا نحمل منه خير الزاد، نصيحةً ودهشةً ومودة. ثمّ جالسته يحدثني كثيراً عن قرى الولاية الشمالية وأهلها وأسباب التسميات التي لأحيائها.
وقد كان رحمه الله تعالى صاحب كراماتٍ وصلاح ورؤيا صادقة، ومما أذكره له من مواقف أنه جاء زائراً لمدينة دنقلا بعد انقطاعٍ طويل بعد أن كان إمام مسجدها العتيق، وكانت له صداقات فيها وذكرى عطرة مع أهلها، ونزل يوم ذاك في منزل شيخه الشيخ/ علي الإمام بصحبة الراحل البروفسور/ أحمد علي الإمام، فتقاطر الناس عليه ليحيُّوه، فجلستُ أرقبه من قُرب، فما جاء أحدٌ وألقى السلام إلا وردّ عليه باسمه كأنه يراه ـ وهو يومذاك ضرير ـ حتى جاء عبد الناصر صابر عبد الوهاب ـ أحد تجار دنقلا الفضلاء ـ وقد كان أبوه السيد/ صابر عبد الوهاب قد توفي في فترة انقطاع الشيخ عن دنقلا وكان أحد كبار التجار ولزيماً للشيخ/ حسن إحميدي، فألقى عبد الناصر السلام وجلس فردّ عليه سلامه ولم يكر اسمه وصمت برهةً. فقلت في نفسي: إنه لم يعرف عبد الناصر. غير أنه التفت إليه بعد برهةٍ وقال متأثراً: (رأيت أباك في المنام فقال لي: إنك لم تترحّم عليّ. فعلمتُ أن قضاء الله قد وقع). فعلمتُ أنه يعرفه لكنه صمت لوجدٍ أصابه بذكر أبيه صابر عبد الوهاب.
وقد ذكرت السيد/ صابر عبد الوهاب في مرثيتي التي رثيت فيها الشيخ/ مصطفى يس، فقد كان صابر عبد الوهاب السيسي أحد أشهر الذين اشتهروا في دنقلا بالجود والتواضع.
وممن سمعت ذكره على لسان شيخي، الأستاذ الراحل المربي/ كامل مصطفى عبد المجيد رائدٌ من روّاد التعليم في الولاية الشمالية، وزعيم قيادي تقلّد رحمه الله مناصب عليا في حكومة السودان آخرها نائب الوالي في ولاية كسلا بشرق السودان. عمل مديراً بمدارس الولاية الشمالية وزامله فيها المرحوم/ مصطفى محمد يس، وكان يكثر من الثناء عليه.
وقد تشرّفت بالتتلمذ على الأستاذ/ كامل مصطفى إذ كان مدرِّس التاريخ بالمدرسة المتوسطة، وكان يأتي لدروسه في وقت العصر بعد أن رُقّي إلى درجة المُوجِّه، حرصاً منه على العطاء. ومما حفظته عنه من عبارات قوله: ما من حدثٍ حدث في مصر إلا وكان له أثرٌ في السودان. وقد أفردتُّ الأستاذ/ كامل مصطفى ببعض مقالات سبقت بالنشر في مدونتي هذه.
ومن أولئك الأعلام الأستاذ الراحل/ بهاء الدين الشيخ، كان رائداً من روّاد التعليم في الولاية الشمالية، عمل مديراً بمدارس الولاية الشمالية، واشتهر بالحزم والصرامة،كان ضخماً فخماً راقياً في تدريسه، وقد درسنا عليه مادة الرياضيات في الفصل الأول من المرحلة الثانوية، وكان يومذاك موجّهاً للمادة في مكتب التعليم للمدارس المتوسطة، وسبب تدريسه في المرحلة الثانوية يومذاك إضرابٌ قام به الأساتذة المصريون بسبب استحقاقات لهم لم تصلهم، فقلنا له ـ ونحن طلاب له ـ إنّ صنيعكم هذا نعني التدريس بدلاً عن أولئك المصريين ليس أخلاقياً، فقال: (لو نظرنا إلى الأمر مجرّداً أي أن أساتذة يُغطون فراغاً أحدثه زملاؤهم للضغط لكسب حقوقهم فقد يجوز الحكم بعدم أخلاقية ذلك الفعل، لكنّ الأمر هنا ليس مجرّداً لأنه ليس أخلاقياً أن تمتنع عن تدريس طلاب يرتبطون ببرنامج زمني لدراستهم فيضيعون، ومن أجل ذلك لم نرَ لهم عذراً). أنا لم أقف عند الأمر ذاته لكني أُخذتُ بهذا الردّ العميق والاستجابة لتساؤلنا من غير استخفاف أو استنكار وهو لبّ التعليم.

الثلاثاء، 9 أكتوبر 2012

مجالس المرحوم الأستاذ/مصطفى محمد يس(5) مذاهب في الحياة...من الآراء الشخصية للمرحوم.


قال ابن تمام:
لولا خِلالٌ سنَّها الشِّعرُ مَا دَرَى       بُغَاةُ النَّدى مِن أينَ تُؤَتى المَكَارمُ
     ولا يدرك معنى أبي تمام خير الفهم إلا من يُعاشر أحد خذقة الأدباء الذين يتمثلون المعاني التي يروِّجون، أي من الذين استثناهم قوله تعالى: ، ومن هؤلاء المعنيين ظناً والله أعلم أستاذنا المرحوم/ مصطفى محمد يس، فالرجل ـ رحمه الله ـ كان معتزاً بثقافته اللغوية بل مؤمناً بحمائلها من الفضائل، وفي أسطر قليلة أذكر بعض ما سمعت منه من أشعار وآراء تضمنتها، وقد عجبت كيف شكّلت مفاهيمه في الحياة، فكانت أسباب فرحه أو مثار عبسه أو محرِّكات بؤسه، وهو في كل هذه الأحوال خير معلمٍ لتلك الفضائل، فأنت حينما ترى معلِّمَك متأثراً ببعض الأشعار فأنت لا تأخذ منه المعنى فحسب، بل تأخذ مع ذلك المعنى انفعالاتٍ ووجداناً وهواجس، فانظر أيَّ معلمٍ كان مصطفى محمد يس رحمه الله تعالى.
        كانت له زمالة دراسة وعلم مع الشاعر محي الدين فارس ـ رحمه الله ـ في مصر، وكانت له صداقة وحبّ لمحي الدين، وكان كثيراً ما يردد أخبار تلك الصلة وأشعار ذلك الشاعر. وكنت مما حفظته منه في أوقات نقده للحكّام الظالمين، ترديده لبيت محي الدين فارس: 
لكَ الويلُ مِن شعبِكَ         الأبْكَمِ أمازِلتَ تلعقُ مُرَّ الدَّمِ
وبالرغم من كونه أحد الإسلامين في بلدنا إلا أنه كان كثيراً ما ينتقد بعض التصرفات التي تصدر عن بعض المنتسبين لحزبه حتى فاض به الكيل فترجم إحساسه بتحريف بيت الشاعر:
وكفرت بالأحزاب لا متجنياً         لكن أدانت نفسها الأحزابُ
فكان ينشده:
 وكفرت بالتنظيمِ لا متجنياً     لكن أساء لنفسه التنظيمُ 
   وكان في إنشاده يُعطي انطباعاً وإحساساً صادقاً يجعل المرء يفكر بعمق فيما يسمع من شعر.
                                  ***
    وهذا النهج من أستاذنا عهدناه فيه منذ اتصالنا به أستاذاً للنحو في المدارس المتوسطة ونحن حينذاك طلاب علمٍ نؤخذ بأسلوب المعلم المتفرّد سيما إن كان مُجيداً يُحبب التلاميذ فيما يقوم بتدريسه من علوم، وهكذا كان المرحوم مصطفى محمد يس. ومما حفظته منه أبيات إيليا أبو ماضي في قصيدة "الطين" وهو يُعرّض بالإنسان المتكبّر المتعجرف، فيقول:

نسي الطين ساعة أنه طين
حقير فصال تيها وعربد
وكسى الخزّ جسمه فتباهى
وحوى المال كيسه فتمرّد
يا أخي لا تمل بوجهك عنّي
ما أنا فحمة ولا أنت فرقد
أنت لم تصنع الحرير
الذي تلبس واللؤلؤ الذي تتقلّد
أنت لا تأكلُ النضار إذا
جعتَ ولا تشرب الجمان المنضّد
أنت في البردة الموشّاة مثلي
في كسائي الرديم تشقى وتسعد
لك في عالم النهار أماني
وروءى والظلام فوقك ممتد
ولقلبي كما لقلبك أحلامٌ
 حسانٌ فإنّه غير جلمد

فرأينا أستاذنا وهو يُنشد تلك الأبيات ويتمثلها كأنه قائلها فيزداد حبنا للشعر يُقال في المواقف تمثُّلاً. ويتعمق فينا حبُّ الفضائل وكره النقائص.

الأحد، 5 أغسطس 2012

مجالس المرحوم الأستاذ/ مصطفى محمد يس (4) خطبته في عقد الزواج


من أكثر ما يُعرِّف المرحوم الأستاذ مصطفى محمد يس لأوساط المدينة تلك الخطبة الشهيرة المؤثرة التي كان يبتدر بها مجالس عقد النكاح، وهي خطبة زهراء معنىً ونسباً كما روى لي أنها قيلت من النبي rفي زواج علي بن أبي طالبtمن بنته فاطمة الزهراء، وقد أبديت إعجابي بها لعلو بلاغتها وفعلها الأخّاذ بمن يسمعها، فما كان منه إلا أن استنسخها لي وذيّلها بعبارة إهداء بليغة نزلت من فؤادي منزلاً خالداً.


ألا رحم الله الراحل الأستاذ مصطفى يس بقدر ما ترك فينا من تحوُّلات قدرية.

الأربعاء، 28 مارس 2012

مجالس المرحوم الأستاذ/مصطفى محمد يس(3) اجترار "مع الأحرار" حديث عن الأدب في دنقلا


من أفكه ما تمتع به سمعي من أستاذي وشيخي الجليل تلك القصص الأدبية الرصينة من سيرة الشاعر السوداني أحمد محمد صالح، سيما ذلك الطرف من زيارة الشاعر إلى دنقلا في أربعينات القرن المنصرم، وقصيدته في تحية زيارة الشاعر المصري علي الجارم إلى السودان وهي في الديوان مترجمة بعنوان:( مجارة لقصيدة الجارم التي مطلعها: صدّقت وعدك بالمنى وصدقت وعدي)، وفيها يقول:
أخلفت يا حسناء وعدي       وجفوتــــني ومنعت رفدي
فينوس يا رمز الجمال         ومتـعــــة الأيــام عــنــدي
لما جلوْكِ على الملا           وتخيَّروا الخُطّابَ بعـــدي
هرعوا إليك جماعةً           وبقيتُ مثل السيف وحدي
أستنجزُ الوعدَ النسيمَ           وأسـألُ الـركبان جهــدي
يا من رأى حسناء تخطر      فــي ثــــيــاب الــلازورد
لو كان زندي وارياً            لتــهـيـبوا كـفـي وزنــدي
أو كان لي ذهب المعز        لأحسـنـوا صـلتـي وودي
لمَّـا تـنـكّر ودُّهـــم             جــــازيتهم صــدّاً بصـدِّ
هـــذي اليراعة في يدي       لــو شئـت كانت ذات حدِّ
                      ___
وفيها:
ملكَ القريض ووارث الحسب المؤثل من معدّ
غرِّد كما شاء البيان           محدّثاً عــــن خيـر عهدِ
أيـــام كان لـــــواؤنا           يجـتـاز من سهــلٍ لوهدِ
واذكر لنا عهد الجدود         وصِفْ لــنــا أيـــام أُحْدِ
                     ___
وفيها:
يا وارث الأدب التليدِ          وبانيَ الأدبِ الأجد
علم شباب الواديين خلائق الرجل الأشد
علمهمو أن الخنوع مذلة والجبن يردي
علمهموا أن الحياة تسير من جزر ومد
علمهموا أن التمسح بالفرنجة غير مجدي
وأَبِنْ لهم أن العروبة ركن إعزاز ومجد
وقد كانت لشيخي الفقيد ملكة إلقاءٍ أخّاذة لمن كان له تذوّق للشعر والأدب.
كما روى لي بإلقاءٍ أخّاذ ملك علي سمعي ووعي ووقع في نفسي موقع موقعاً تلك الأبيات في "نكبة دمشق":
مهلا دمشق فكل طرفٍ باكِ         لما استبيح مع الظلام حماك
جرح العروبة فيك جرحٌ سائلٌ        بكت العروبة كلها لبكاك
جزعت عمان وروعت بغداد         واهتزت ربى صنعاء يوم أساك
وقرأت في الخرطوم آيات الأسى     وسمعت في بيروت أنة شاكي
                                ___
وقصيدته في زيارته مدينة دنقلا:
طاب في دنقلا الغداة مقامي           فذكرت الربيع من أيامي
جئتها يائساً كئيباً معنىً                فشفتني وجددت أحلامي
ذكرتني الشباب إذ أنا          ريّانٌ أجر الذيول بين الخيام
___
وفيها يقول عن أهلها وكرمهم:
أخذوا عن نخيلهم في علاها           عزة النفس وارتفاع الهام
من شيوخ شم العرانين زهرٍ          كالمصابيح رجّحِ الأحلام
وشباب ترجوهمُو للمعالي             في الملمات والأمور الجسام
هم سيوفٌ إذا الخطوب ألمّت وبدورٌ عند اشتداد الظلام
فيهم الشاعر الذي ما علا المنبر      إلا جاء بالإلهام
علّم الطير كيف تشدو في الدوح      وتشدو بأعذب الأنغام
غمروني بفضلهم ونداهم              وأحلوا مع الثريا مقامي
ويسرد الأستاذ لي على ذكر" فيهم الشاعر الذي ما علا المنبر إلا جاء بالإلهام " سيرة العمدة/ حافظ الأمين واسمه "محمد حافظ محمد الأمين"، وهو أحد الذين ضمهم ديوان "شعراء السودان" والشاعر/عبد المجيد وصفى الذي يروي عنه أهل دنقلا أبياتاً في ذم المفتش الإنجليزي الذي لم يجازه على أشعاره فيه فقال:
لو كان شعري شعيراً لاستحسنته الحمير
ولكن شعري شعورٌ فهل للحمير شعور
والأبيات مروية عن غيره ولكن مجالس الظرفاء من المدينة ينسبونها له والله أعلم بالقائل.
. والعمدة حافظ ووصفي من شعراء دنقلا الذين يستحقون حديثاً مطولاً بعد جمع أخبارهم. وقد يذكر تعليقاً بعض آل أبي عوف السنهوري، وأبياته الرائعة التي يقول فيها:
تـَبَدَّتْ كَبَدرِ التـِّمِّ في الحُلـَلِ الخـُضْرِ        مُفكَّكَـة َ الأَزْرَارِ مَحْلـُولـَة َ الشـّعْـرِ
فـَقـُلْتُ لـَهَا:ما الاسمُ ؟ قـَالـتْ:أنا التي       كَوَيْتُ قـُلوبَ العَاشِقينَ على الجَمْرِ
انـا الفِضـَّة ُ البَيْضـاءُ والذهَبُ الـَّذي        يُفـَكُّ بـِهِ المَـأسُـورِ مِـنْ شِدَّةِ الأَسْرِ
فـَقـُلـْتَ لَهـا : إنَّ الصُّـدُودَ أذَابَـنِي           فقالت:أتـَشكُو لِي وقلبيَ مِنْ صَخْرِ؟
فـَقـُلتُ لَهـا : إنْ كَـانَ قـَلبُكِ صَخـْرَة ً        فـَقـد أنْبَـعَ اللهُ الـزُلاَلَ مِـنَ الصَّخـْرِ
رحم الله الأستاذ مصطفى محمد يس ورفع درجاته في المهديين وخلفَ له في عقبه في الغابرين...آمين