إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

الخميس، 16 نوفمبر 2023

 


ذكريات الأستاذ/ 

عمر عبد العزيز
         و

بدايات التعليم النظامي

   في مدينة دنقلا 
      (4)


انتدبت للعمل بمعهد التأهيل التربوي ورافقني فيه من دنقلا الأستاذ/ صابر الشيخ الأخ غير الشقيق للأستاذ فؤاد الشيخ، فتخرج علينا دفعتان من المعلمين فاستقرت بذلك فكرة التأهيل التربوي. ثم انتدبت للعمل بسلطنة عمان لعامٍ واحدٍ عدت بعدها لمدينة دنقلا، وكانت الدفعات من الطلاب التي أثارت المشاكل سابقاً قد تخرجت فآثرت العودة للعمل بمدرسة دنقلا الثانوية مرةً أخرى.

لقد أتحفني الزمان هذه المرة في مدرسة دنقلا الثانوية بالعمل مع المدير الفاضل طيب الذكر الأستاذ/ عبد الرحيم محي الدين (من قرية شيخ شريف) في العام الدراسي 1979م-1980م، إذ انخرطت في العمل بالمدرسة منذ شهر سبتمبر وقبل نهاية إجازتي لأجد رجلاً من ألطف من عملتُ معهم من الأساتذة المحترمين، كان رجلاً منظماً، "أخو إخوان"، خلق للمدرسين في عهده مجتمعاً وبيئةً مدرسيةً حرص فيها الأساتذة على الانضباط التام تقديراً له، وفي عهده عادت المدرسة بشيءٍ من ماضيها في الانتظام ودخول عددٍ من الطلاب النابهين الكليات العلمية والأدبية الأولى، فمن هؤلاء

د. عبد الفتاح العميري

الطلاب الذين امتحنوا للشهادة السودانية من أبناء دنقلا الأطباء عبد الفتاح العميري وميسرة فاروق سعيد عطية وصلاح كمال الحميدي وكمال هاشم والمهندس/ محمود محمد سلامة والمهندس/ عبد المنعم صابر إبراهيم علي، ومن القسم الأدبي ستة طلاب أو سبعة منهم حسن محمد علي أبعوف. وقد عملت مع المدير/ عبد الرحيم محي الدين ذات الأعمال الإدارية لوكيل المدرسة التي توليتها من قبل بالمدرسة بجانب جداول الحصص في الصف الثالث، فتوليت له حسابات "العون الذاتي"، وهي فصول القبول الخاص التي يقوم طلابها بدفع رسوم دراسية إضافية تعين المدرسة في تسيير مهامها لكنها تظهر في الحسابات الحكومية الرسمية.

وفي العام الدراسي 1979م-1980م كان الأستاذ/ عثمان محجوب – رحمه الله تعالى من مروي  أباً - مشرفاً – على أحد فصول المدرس – فصل المتنبئ - فاستلم أموالاً من الطلاب وقام بتوريدها لمحاسب المدرسة إلا أنه لم يستلم إيصالاً بالمبلغ ولم يظهر المبلغ في بيانات المحاسب عن ذلك العام، وأنكر المحاسب المبلغ، فاستشارني أستاذ/ عبد الرحيم فيما يمكن التصرف به حيال هذا الموقف، فقلت له: إنه لا يجدر بنا أن نتصرف بتغطية المبلغ ببيانات وهمية نثبتها بفواتير غير واقعية – وإن كان بمقدوري أن أدخل سوق "نقلا" وأجمع منه فواتير تغطي ذلك المبلغ – ولكن الأجدر أن نكتب تقريراً يوضح الأمر ونرفقه مع القوائم المالية للمراجعين، فإن أصر المسؤولون على أن نتحمل دفع المبلغ غرامةً فلنفعل. وقد كان ما أشرت به على المدير فقُبِل التقرير ومضى الأمر بسلام.

وفي العام 1980م جاءت فكرة إقامة "معهد التأهيل التربوي" لمعلمي المرحلة المتوسطة. وكان قد ابتدر تنفيذ الفكرة زميلنا سابقاً في مدرسة دنقلا الأهلية ثم في معهد "بخت الرضا" وهو الأستاذ/ حسن علي عبيدي – من أبناء مدينة "عبري" في السكوت وشغل سكرتير امتحانات السودان – وكان مديراً لمعد التأهيل التربوي، فكانت خطته تقوم على فتح معهدين للتأهيل التربوي لتدريب معلمي

أ. حسن عبيدي

المرحلة المتوسطة، أحدهما في "بورتسودان" وآخر في "سنار" غير أن المعهدين فشلا في العمل بسبب معرضة نقابات المعلمين لفكرة التأهيل التربوي، فوسَّط الأستاذ/ حسن عبيدي الأستاذ/ محمود أحمد مصطفى للحديث معي في شأن تولي فتح معهد التأهيل التربوي للمرحلة المتوسطة في دنقلا، فاعتذرت للأستاذ/ حسن بحجة أن محاولة فتح المعهد في العام 1976م في كريمة لم تنجح، فترجاني لتولي المهمة، فوافقت له. وكان الأستاذ/ حسن عبيدي زميلي سابقاً في "بخت الرضا" ثم عملنا معاً في معهد التأهيل "الرئاسة" ثم في مدرسة دنقلا الثانوية إبان فترة إدارة الأستاذ الراحل/ عمر الصديق لها، وعلى الرغم من كون الأستاذ المرحوم/ حسن عبيدي كان شيوعياً نشطاً في مدرسة دنقلا في تجنيد طلاب المدرسة وتنظيمهم غير أنه مع ذلك كان رجلاً محترماً بمعنى الكلمة.

ولمَّا علم الأستاذ/ عبد الرحيم محي الدين بما عرضه عليَّ أستاذ/ حسن عبيدي وأني كنت قد تمنعتُ، قال لي: "إنْتَ لَوْ مَا عَايِزْ تَمْشِي أَنَا مَا بَفِكَّكْ"، فأكبرتُ ذلك منه ووعدته أني لن أتنازل عن تدريس جدولي لحصص الأدب الإنجليزي بالمدرسة، وأني سوف

أ. ساتي علي الحاج

أشارك الأستاذ الذي يتولى وضع جدول الحصص لأضع جدول حصصي بما يتوافق مع عملي بالمعهد. أما المدير السابق الأستاذ/ ساتي علي الحاج – والذي صار نائباً للأستاذ/ أحمد صالح ثابت "مساعد المحافظ لشؤون التعليم" (مدير التعليم بالمحافظة) – فقد قال لي: "إنْتَ لَوْ مَا عَايِزْ تَمْشِي أَنَا سأجمِّد قِيَامْ المعهد". وكانت هذه هي بداية تأسيس "معهد المعلمين" بدنقلا.

أ. أحمد صالح ثابت
كانت معارضة نقابات المعلمين لفكرة التأهيل التربوي ما تزال مستمرة ولذلك انتقلت معارضة الفكرة لصفوف معلمي المرحلة المتوسطة برغم من الشعور العام وسط المعلمين بفائدة التجربة على أداء المعلمين، ولذلك واجهت هذه المعضلة في بداية التجربة إذ أخذ بعض المعلمين بترويج ضرورة أن يتولى التدريب بمعهد التدريب أساتذة حملة الدكتوراة، فكان أن قام الأستاذ/ عبد الرحمن محمد عبد الله حسين بقيادة التيار المناهض لقيام معهد المعلمين، وقد استجاب له قدامى أساتذة المرحلة المتوسطة بالامتناع عن التدريس بالمعهد، فتطوَّع زملائي أساتذة مدرسة دنقلا الثانوية بتولي مهمة التدريس بال
معهد فاستجاب عدد من أميز المعلمين، منهم الأساتذة أحمد عبد اللطيف محمود الشهير بـ"أحمد كيمياء" والأستاذ/ محمد إدريس والأستاذ/ أبو قرون أستاذ الرياضيات بمدرسة دنقلا الثانوية الشهير آنذاك، والأستاذ/ علي عباس أستاذ مادة التاريخ، فأنجحوا فكرة المعهد وقاموا بتدريب الدفعة الأولى من منسوبي المعهد.

أ. أحمد عبد اللطيف (كيمياء)

أ. محمد عبد الله حسين
أ. محمد مصطفى أبو قرون

  وكان الأستاذ المرحوم/ كامل مصطفى عبد المجيد هو سكرتير نقابة المعلمين، فجاءه المعلمون يقدمونه في معارضتهم فواجهته ببعض الحقائق، منها أن بعض الأساتذة الذين لم تسعفهم الظروف الاجتماعية مثل الزواج ما زالوا في الدرجة التاسعة (Scale J) ودفعتهم في الدرجة (B) وصاروا نظاراً في المدارس، وضربت له مثالاً بالأستاذة/ اعتدال خليل والأستاذة/ نعمات عشيري، والأستاذ/ محمد أحمد الطيب، فاقتنع الأستاذ/ كامل مصطفى وأحضر المعلمين فاعتذروا                              
أ. كامل مصطفى عبد المجيد
عن سلوكهم وانخرطوا كلهم في التدريب عدا الأستاذ/ عبد الرحمن محمد عبد الله حسن فقمت بإيقافه من المعهد، برغم صداقتي وزمالتي لوالده مولانا/ محمد عبد الله حسين فاعتذرت له وأخبرته أني ملزم بالحفاظ على مصلحة بقية الأساتذة ولا أستطيع مجاملة ابنه فتقبل ذلك الكلام بصدر رحب.

 واستقر العمل بالمعهد حتى التحق بالعمل فيه قدامى أساتذة المرحلة المتوسطة، فكان أهم الشخصيات التي انخرطت فيه الأستاذ/ مصطفى محمد يس والأستاذ/ كمال جابر والأستاذ/ إدريس حسن عبد ربه. ثم تقدم إلي الأستاذ/ محي الدين قناوي بطلب الانتداب للمعهد مدرباً فقبلت على الفور، إذ أنه كان وكيل الأستاذ/ كامل مصطفى في نقابة المعلمين، فرأيتُ فيه إضعافاً لدور النقابة وموقف سكرتيرها  في محاربة فكرة المعهد، وعلى الرغم من أنه كان يقوم بتدريس المواد المساعدة مثل مادة "تنمية المجتمع" إلا أن الأستاذ/ محي الدين كان إضافةً مفيدةً جداً وكان هديةً كبيرةً للمعهد.

ثم تطور عمل المعهد إذ جاءت منظمة "اليونيسف" UNICEF بمشروع تمويل تدريب موجهي المرحلة الابتدائية، وطُرح الأمر على إدارة التعليم حينذاك التي كان على رأسها الأستاذ/ أحمد صالح ثابت ومولانا/ شاكر علي إسماعيل، فأهمهم ذلك الأمر لأنهم يدركون أن هؤلاء الموجهين كانوا أساتذتي في عندما كنت تلميذاً في مرحلة الأساس – فمنهم الأستاذ/ فؤاد خليل والأستاذ/ مصطفى علي

أ. مصطفى علي أحمد

أحمد والأستاذ/ بدري خليفة وغيرهم - وأنهم لن يتقبلوا مسألة أن يقوم تلميذهم الذي قد يكون في عمر أبنائهم بسهولة، 
  فكلموني في ذلك فطمأنتهم أن الأمر سيتم بخير وأنا أدرك خطورة الأمر إن فشل. فلما بدأت الدورة التدريبية أخفيت عن المتدربين الكتاب المعد للتدريب وقمت بتوزيع كتيب امتحانات يحوي مسائل في علم "الجبرة" في الرياضيات، وأنا أعلم أن هؤلاء الأساتذة الكبار لم يكن هذا الفرع في الرياضيات يُدرس ولم يكن معلوماً لهم فجعلهم ذلك يدركون أنهم مقبلون على علوم جديدة عليهم تستحق التدريب عليها، فأقبلوا على ذلك باستجابة كبيرة، فاستقر الأمر، وتلت ذلك دورات عدة أقبل عليها المعلمون بجد وتقبلوها باهتمام وإكبارٍ شديد.

    
وعلى ذكر الأستاذ/ كمال جابر رحمه الله تعالى، فقد كان من طلابنا من مدرسة القولد المتوسطة
أ. كمال جابر
أ. الأمين كعورة
– والتي غدت حينذاك مدرسةً  حكومية بعد أن تأسست أهليةً كما ذكرنا، وكان من صنيع الأستاذ/ عمر الصديق – مدير
مدرسة دنقلا الثانوية حينذاك – ألا يقبل من مدرسة القولد المتوسطة غير الأوائل، فقبل الأربعة الأوائل الذين كان       أحدهم الأستاذ/ كمال جابر، غير أنه لم يستمر في دراسته بسبب انتقال والده الشيخ/ جابر إلى "مدني" الذي كان مديراً للتعليم فيها بعد عمله بدنقلا، فانتقل الطالب حينذاك/ كمال جابر إلى مدرسة بود مدني كان مديرها الأستاذ/ الأمين محمد أحمد كعورة الذي ظل يراسلنا مراراً لإرسال ملف الطالب/ كمال جابر بغية إكمال إجراءات نقله.            
          وعوداً لسيرة المعلمين المؤسسين الأوائل للتعليم أمثال الشيخ/ جابر والشيخ/ علام وشيخ/ زبير رشيد ومولانا/ شاكر علي إسماعيل – فإنه على الرغم من الفارق الزمني بين الشيخ/ جابر ومولانا/ شاكر - إذ أن الشيخ/ جابر حينما كان مديراً للتعليم كان مولانا/ شاكراً معلماً لم يبلغ درجة الناظر - فقد كانوا هم زعماء البلد الذين يتصدرون قضايا الناس لا يُقطع أمرٌ في الشأن العام إلا بمشورتهم ولا يحل ضيفٌ
اللواء/ محمد أحمد عروة
 إلا على ترتيبهم فيكونون في استقباله. فمثلاً يرجع الفضل في ابتدار أمر كهرباء ومياه مدينة دنقلا إلى الشيخ/ جابر، إذ أنه وفي استقبال وزير المعارف وقتها اللواء/ محمد أحمد عروة، أنشد شاعر دنقلا حينها الشيخ/ جابر قصيدة حيا فيها الضيف الزائر ومدحه فيها، ومن بعض أبياته فيها قال:(ثمَّ إنَّ النُّورَ والماءْ صارا مِنْ ضروراتِ البَنَادِرْ)، وحينما خاطب اللواء/ عروة الحضور شكر شاعرهم على الثناء وقال إنه لا يستحقه، وأنه سوف يستجيب للقول الذي قبل (ثم)، يقصد بذلك طلب مياه وإنارة مدينة دنقلا، ثم وجه من فوره مسؤولي وزارة الأشغال المهندسين إبراهيم محمد إبراهيم (من شيخ شريف) و
م. إبراهيم محمد إبراهيم
محمود محمد نور  خوجلي (من أبناء دنقلا) بعمل التقديرات اللازمة لذلك،         إلا أن المشروع لم يكتب له التنفيذ إلا في عهد ثورة مايو فيما بعد. هكذا كانوا رواد المجتمع إلى التطوير والتقدم، وحُرَّاسه من كل دخيلٍ مشين، والناطقين باسمه والمتقدمين صفوفه، والباذلين جهدهم ومالهم وعلمهم لرفعة الأجيال والعمل على مستقبل مشرق لهم. رحمهم الله تعالى رحمة واسعة، ومدَّ الله في أعمار الأحياء منهم في العافية والسلامة. آمين.