إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

الأربعاء، 21 ديسمبر 2016

هشاشةُ "اليسار" السوداني ...الرسوبُ في مادة الثقافة الإسلامية



          كان من مثار دهشتي مغالبةُ أدْعياء اليسار السوداني من الشيوعيين والقوميين وآخرين من دونهم ـ يعلم المثقف السوداني صلة آرائهم النَّشاذ ولا يعلم لها مَحْملاً أو داعياً ـ أدهشني في بادئ الأمر ما ينمُّ منهم عن اطلاعٍ على كنوز الثقافة العربية مع موقفٍ غير مفهومٍ من الثقافة الإسلامية يعبِّرون عنه في كثير من الظروف بالمجافاة وعدم الاعتراف له بالفضل على الثقافة العربية، وإنْ اختصَ بهذا التصريح العلَامات من القوميين العرب! الذين جاءوا بعد قرون في وجه العروبة ادعاءً لو شهده سيبويه أومسكويه أوخالويه لَمَا ملَكَ إلا أن يضحك عليه... إلا أنَ دُعاة اليسار .. ومنْ على دربهم سار .. وَصَمهم هذا القرار واستووْا فيه، فما زالوا يُجافون الثقافة الإسلامية في مسيرٍ كان عصياً على التفسير .. حتى فضحهم في أخيرٍ من بني جلدتهم خبير..
          وقبل أن أُوْرد قول ذلك الأخير في التفسير، أذكرُ بعض ما أثار دهشتي من دهاقنة اليسار في الثقافة الإسلامية. فقد كان أول ما أدهشني هو كتابات "محمود محمد طه" صاحب نظرية "الجمهورية" في الدين الإسلامي وشريعة رسول الله محمد r، فقد ألَّف الرجلُ ديناً مرَكّباً على الإسلام، مستعملاً في ذلك ملَكَة فطيرة وهشّةً في تأليف الروايات وحبك القصص وتظليل المواقف مع تعقيدٍ لتراكيب الجُمل والعبارات، وأخرج ذلك في كُتَيِّباتٍ لو شاء الجاحظ أن ينحو هذا النحو في تسخيف الإسلام على غرار رسالته الموسومة بـ"التربيع والتدوير" لكان كل ما كتبه المدعو "محمود" فصلاً في إحدى كتب الجاحظ الذي مع جسارته في اللغة وإمامته في الفكر الإسلامي لم يألُ أن يبسط القول في كفاية القرآن منهجاً والشريعة عدلاً والإسلام ديناً، لا النداءات البائقات، أمثال "الجمهورية" و"القومية" أو "الاشتراكية" ولا غير ذلك من شعارٍ شِّغار. ومن مأثورات محمود محمد طه في المسرحيات المؤلفة من الشريعة، إدعاؤه أن المسلم يتدرج في التديُّن حتى يأخذ من الله عزّ وجلّ بلا واسطة، فيكون هو "الإنسان الكامل" الذي وصفه في كتاباته فجعل له صفات الله عزّ وجلّ تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً... وقد اقتبس المدعو هذه الفكرة "الدرامية" من حكم التشهُّد في الصلاة مع "حبكه" بمشهد "المعراج" ـ في حديث السيرة ـ وكلام الله عزّ وجلّ نبيه صلى الله عليه وسلم مِن وراء حجاب غيرَ كفاحٍ كما ثبت في الأحاديث. كانت هذه طريقة المدعو في تأليف الدين الجديد "الرسالة الثانية" للإسلام، مع غير الإشارة للمُرسَل بها، وواقع أتباعه يؤكد ألا مُرسَلَ بها، بل هناك راسلٌ وهو بينهم إنساناً كاملاً يطوفون حوله ويسبحونه وقد رُفعت عنه التكاليف فهو "المؤمن" أصالةً ويُصلي "أصالةً" بدون ركوع ولا سجود ولا شيئاً من أفعال الشريعة، فمن هو؟ هو محمود محمد طه، غير أنه لا يجرؤ أن يقول أنا ربكم. وقد سار المدعو في كتاباته كلها على هذا النحو مستغلاً بضاعةً مزجاةً من "السيرة" و"الأحكام" التي قد تتسنى لبعض الصغار في يومنا هذا وقد كانت يوم ذاك مما يُعظِّم الناس به شأن بعضهم، ولكنه برغم ذلك ما رعاها حقّ رعايتها.
وعلى الرغم من أني لا أنوي هنا مناقشة دينه المفترض إلا إني أورد بعض أمثلة تلاعبه بالأقوال، فمنها ما فسّر به ـ كما أحبَّ أن يُوهم ـ السنة النبوية فقال:( إن مما ألِف الناسُ أنّ سُنة النبي هي قولُه، وإقرارُه، وعملُه. والحق أنّ هذا خطأ. فإنّ قول النبي وإقراره ليسا سنةً، وإنما هما شريعة) ثم يقول:( والفرق بين الشريعة والسنة هو الفرق بين الرسالة والنبوة، أو هو الفرق بين مستوى الأمة من أعلاها إلى أدناها ومستوى النبي)، و(السنة هي عمل النبي في خاصة نفسه والشريعة هي تنزل النبي من مستوى عمله في خاصة نفسه إلى مستوى أمته ليُعلِّمهم فيما يُطيقون، وليكلِّفهم فيما يستطيعون) ثمّ يُرتَّب على هذه الحبكة النتيجة التالية:( ومرحلة العلم هي مرحلة الأمة المسلمة، وهي أمة الرسالة الثانية، وهذه الأمة لم تجئ بعد، وإنما جاء طلائعها فرادى على مدى تاريخ المجتمع البشري الطويل، وأولئك هم الأنبياء وفي مقدمتهم سيدهم وخاتمهم النبي الأمي محمد بن عبد الله عليه أفضل الصلاة وأتمُّ التسليم، وهو قد بشّر بمجيء هذه الأمة المسلمة، كما جاء برسالتها مجملةً في القرآن، مفصّلةً في السنة، وقد أسلفنا الإشارة إلى معنى السُنة)، فالرسالة الثانية بشّر بها محمد صلى الله عليه وسلم، كما بشّر برسالته عيسى عليه السلام، وهي جاءت مجملةً في عمل النبي في خاصة نفسه التي لم يطلع عليها الناس إلا عالمُ ما في النفس محمود محمد طه. وفي موضع آخر يقول:( الناس اليوم لا يملكون القدرة على التمييز الدقيق بين الإسلام والإيمان، فهم يعتقدون أن الإيمان أكبر من الإسلام، وقد ورّطهم في هذا الخطأ عجزهم عن الشعور بحالة الوقت، ذلك بأن الوقت الذي كان فيه هذا الفهم صحيحاً قد انقضى، وأقبل وقتٌ تطوّر فيه فهم الدين، وانتقل من مستوى الإيمان إلى مستوى الإسلام).
وما أدهشني هو أنه بتلك الطاقة في الكتابة والتأليف والاطلاع الذي لا يخفى مع كل تلك المآخذ، أما كان حرياً به أن يسبر غور الفكر الإسلامي مُتعلماً أولاً، فيُوجدَ له منفذاً ليُمكِّنه من واقع الناس الذين بعُدوا يوم ذاك عنه، بدلاً من أن يستغل جهلهم به فيُلبِّس عليهم؟
لكن ثمة سؤال مهم هو: هل كان محمود محمد طه مفكّراً إسلامياً أم سياسياً يسارياً؟ بل هو الأخير وإن حاول أن يُلبِّس حالته ويمسحها بوصف التصوُّف الإسلامي بإقحام الإنشاد الديني في فعاليات حزبه السياسي، أو باستخدام الذخيرة الثقافية الإسلامية في ضرب كل أركان وفحوى وأحكام ومفاهيم الإسلام "الرسالة الأولى" الذي "لا يصلح لإنسانية القرن العشرين"، فلا الصوفية تَسلمُ له لأن مشرب الصوفية هو التّلقي لا التأليفُ والابتداع والحبكات الدرامية، ألا ترى أنهم يُسمون مذاهبهم في التربية بـ"الطريقة" و"الطريق"، ويُقرون بأن شيخهم أخذ الطريق عن "فلان" وليس عن "شيطان". كما أن "الإسلامية" لا تسلم له إلا إن جوَّزنا منهج الدواعش الذين لا أصل لهم في حركات الدعوة الإسلامية اليوم وقد افتضحت نواتهم الأمريكية.
فنشأة الرجل وتاريخه وأتباعه وأشياعه وآراؤه كلها تدمغه باليسار سِحنةً وسِلعة. ما فضحه وعرّاه إلا جهله بالثقافة الإسلامية التي لم يجرؤ على تعلمُّها لاستنكافه أن يعترف لها بالعلمية، فهي "إيمان" حسب زعمه يحتل رتبةً يغيب فيها "العلم". مؤكداً بذلك استحقاقه لوصف الجهل بالإسلام جدارةً واقتدارا.   
          ثمّ تجلّى لي موقع اليسار في الثقافة الإسلامية تماماً بموقفٍ لي في مرحلة الدراسة الجامعية ونحن طلاب في دراسة القانون على يد أحد أجلاء علماء القانون الذين سلكوا دروب اليسار ثم آب إلى فيء العلوم الإسلامية فكان أحد أعضاء هيئة التدريس بجامعة القرآن، وقد قادته المواقف التعليمية في إحدى محاضراته ليروي لنا طُرفةً له مع صديق يساريٍ ضليع في القانون هاتَفَه يسألُه عن مصطلحٍ إسلامي أُجبر على التعامل به بعد أسلمة القوانين في السودان قائلاً:(لم نكد نعلم معنى "الغَرَرِ" حتى فاجؤونا بمصطلح "الغُبْنِ" و"الغُبْنِ الفاحش"!)، وقد أثار حيرتي حينها أنه كيف بقامةٍ "يسارية" لا يلجأ إلى الثقافة الإسلامية ولو كان قانونياً إلا "مَنْ أُكرِه".
          وعلى ذات الشاكلة فقد طالعت كِتاب أحد اليساريين السودانيين في نقد "التجربة الإسلامية"، بتحديد "الجبهة الإسلامية في السودان نموذجاً"، ودهشت أنه يرمي الدكتور حسن الترابي بتهمة ابتكاره "مقاصد الشريعة" من بنات أفكاره، فلم أتمّ قراءة الكتاب عملاً بقول أبي حنيفة:( لأبي حنيفة أن يمُدَّ رجليه) فمددتهما ولساني. ومن عجب الأمر أنّ المؤلف يمتلك مركزاً "ثقافياً"!!!
          دام عجبي طويلاً حتى استمعتُ يوماً إلى مفكِّر اليسار البروفسير عبد الله علي إبراهيم الذي جعل الموضوعية هاديَته وعُرف بها في مقالاته وآرائه، وقد سُئل عن سرِّ عداوةِ قبيلة اليسار سيما الشيوعيين للبروفسير الراحل عبد الله الطيب، فقال إنهم عادَوْه لأنه كان يحمل لواء العربية الفصحى وهم لم يستطيعوا أن يُخاطبوا الشعب بشعر فصيحٍ وقد فضح تمسُّحهم بالشعر في رغبتهم في استغلال الشعر وسيلة للتزلُّف للشعب من باب شعر التفعيلة، فكان صاحب رأيٍ جريءٍ في هذا الضرب من الشعر. إذن هم إن جهلوا شيئاً عادَوْه وأداروا له ظهرهم، وإن لم يجدوا بداً منه أتوْه من غير أبوابه، سِمَا الجاهلية الأولى إذ أمرهم المولى عز وجل قوله (وأْتُوا البُيوت مِن أبوابها).

الأحد، 18 ديسمبر 2016

التَعمِيةُ الثقافية ... كِهَانةُ اليسار العربي الحائر

    واحدةٌ من أهم ملامح اليسار العربي ومحاكاةِ أشباههم في السودان هي التعميةُ الثقافية إن صحَّ لي وصفُها، وهي ظاهرةٌ موصوفةٌ في الذهنية الإسلامية قديماً، ومجرَّبة في الصراع الحضاري للمسلمين الأوائل من بني إسماعيل في عهديهم المكي والمدني، وإن كانت هي أظهر في الثاني لارتباط المكان بقومية دخيلة وهي بنو إسرائيل الذين احتضنتهم الثقافة العربية فأنتجوا فيها لغةً مستحدثة واجتماعيات اختُصُّوا بها، بل وتعاَلوْا بها حيناً. وكان منهجهم هذا مثار صراعٍ للمسلمين معهم في أول الأمر حتى كسروا شوكتهم ثم تفاعلاً مع منتوجهم الفكري والثقافي في حِقََب الحضارة الإسلامية بعد الأموية إلى يومنا هذا، لأن التفاعل الثقافي والاجتماعي هو جِبِلة وخصيصة موجبة في النفسية العربية خاصةً والشرقية عامةً، وأقوى الدلائل على فاعلية الثقافة العربية هو إلغاؤها للعرقية في التفاعل الإنساني الأمر الذي أكسبها القبول الطاغي على حساب الثقافات التي انسابت إليها، فلعب المَوَالي فيها أدواراً لم تخصم من رصيدهم العرقي ولم تُذرِ بهم حتى يكون ذلك محملاً لمُحترزين .
     كانت وما تزال التعمية الثقافية سلاحاً أُحادي المأخذ في وجه الشرح السماوي لواقع الإنسانية والوجود الذي صاحب الرسالة الخاتمة، وتمددت التعمية الثقافية تدجيناً للغة لتؤدي وظيفةً افتراضية مناهضة لطبيعتها، وتحويراً للسلوك الإنساني ليقبل مفاهيم توجيهية غير أليفةٍ للطَّبع، وبذلك تُكمّم ملكات البشر لتكون أقصر مما في البهيمية، والغرض من كل ذلك كان مُعلَناً، وهو الاقتصار على معايشة النهار من الحياة، واختزال الدنيا في تلك الصفحة من اليوم، (وَقَالَت طَّائِفَةٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) آية، وما تزال هذه الحوامل والدواعي شاهدة في عالم اليوم الغربي في انحسار الرغبة في الذرية البشرية الولّادة، وفي اللغة لغرض الانتاج المعاشي الغريزي أولاً وأخيراً، وفي التعالي الأناني المختط من "الاستعمار" إلى "الإمبريالية".وفي الشح الذي تجسده أوربا إلا تركيا بإيصاد أبوابها أمام أرتال المهاجرين لظروف إنسانية.  
.. 
 وكما اتحدت الحوامل والبواعث قديماً وحديثاً فقد تماهت المناهج لذلك الغرض غير الجاد في التعامل مع الواقع "الصيروري" ولو بفعل فاعل إذ لا يُتصوَّرُ واقعٌ بغير فاعلٍ كما يغمز بذلك اليسار في رفضه للحضارة الإسلامية مواربةً.. وأعرض فيما يلي مشيراً إلى بعض تلك الأساليب المهترئة باسم الثقافة، فمنها:
=  التلاعب باللغة العربية بالاصطناع غير المنضبط بقواعدها والتماهي مع لغات الفرنجة تعريضاً بدونية العربية من الغربية فيكثر استعمال المتفرنجة لأداة التعريف "الـ" على الكلمات الإنجليزية أو الفرنسية دون انتشار لباقي اللغات الآرمية التي أسست التعالي الثقافي مثل الجيرمانية مثلاً، وابتدع بعضهم القول بإن الثقافة العربية هي مجرد سرقة أدبية آرمية مع كثيرٍ من الخيالية غير المجدية ...
    ومن ذلك التلاعبِ التشقيقُ المضلِّل للمعاني الموضوعة أصالةً انصرافاً عن "التصريف" الذي يحفظ للمفردات دلالات توليدية موضوعة، فمصطلح "الهوية" ينهض مثالاً على ذلك التشقيق من الضمير "هو"، وليس هو من ذلك في شيء، و"الاثنية" من كلمة "اثنين". والتشقيق مهمة لغوية غير الاصطناع، فالاصطناع ينزل بالمفردة عن درجتها في الدلالة اللغوية شأن الاصطلاح، وهو منه، أما التشقيق الذي ابتدعه اليسار العربي فهو محاولة في إطار إثبات سطحية العربية وعدم أصالتها، على النحو الذي نهجه في العناية بالعامية العربية واللهجات المحلية في القطر العربي على حساب الفصحى، وذلك عُقيب "الاستعمار" الحديث.
   ومن فنونهم في ذلك التلاعب ما يُمكن تسميته بـ"تظليل المفردات العربية" وإن تحدِّث القرآن عن هذه الظاهرة بدقّةٍ، فقال:(ومِنْ النَّاس مَنْ يَشْتَريْ لَهْوَ الحديثِ لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ علمٍ)، فانعدامُ العلميةٍ في استخدام الألفاظ كفيلٌ بضياع الغايات العملية منها، وبالتالي يصدق عليها وصف "اللهو"، فنرى اليسار العربي يلوكُ في العَمَهِ ألفاظ "المصير المشترك" و "حقوق الأقليات" و"الهامش والمركز" و "الحكم الراشد" ، وليس لهم أيَّ تجربة في الواقع العربي فيما يروجون من ألفاظ يظللونها بما شاءوا من أوهام "تجرِفُ الغِرَّ وتجترحُ الأماني".
=    ومن التناقض الثقافي عند اليسار استخدامهم المصطلح العربي لغرض إنكار الأصالة العربية في كثيرٍ من الأحيان، والتمايز باللغة تعالياً على الواقع في مناطحةٍ لفلسفة اللغة نفسها التي تعبُر بالناس جسراً للتواصل تواضعاً على المفاهيم الإنسانية.
    إنَّ الاستخفاف بالعربية يقابلُ الاغترارَ بها أُمّاً وأباً، وليس من هذا ولا ذاك الاعتزازُ الطَبَعِيِ بها جوهراً قيّماً فريداً في الألسن، وذلك مبعث الحرج الذي يُقحم اليسار العربي نفسيَّته فيه، فيتوارى بغيرها هرباً من التأصيل.
=    ومن أوجه التعمية الثقافية لليسار العربي القفزُ على الالتقاء الثقافي الجمعي، سيما على الموروث الثقافي العربي، من خلال التباهي بالإثنية بديلاً مفترضاً، في مغالبة لاجتماعيات الشعوب المحلية التي تجنح للتفاعل مع المطروح الثقافي بغير خجل ولا دونية وبصورة طبيعية، وفي محاولة لاستنهاض افتراضي لبدائل ثقافية مندثرة لا تمت إلى العالمية المعاصرة، وإن كانت غير عَصِيَّةٍ أو فاقدةً للقدرةِ على الظهور من جديد في العالمية، ذلك الشأن الذي لا نظير له في التاريخ الإنساني المعاصر على الأقل.
=    محاولات إلغاء المحصِّل الاجتماعي الإنساني المحلِّي للمجتمعات الإسلامية التقليدية، بدعوى أنه مَلْمَحٌ عنصريٌ أو فوقي استعلائي، في خدمة مجانية لأغراض الخارج في الاعتداء المُفسد بالضرورة، فغير خافٍ على عوامِّ الناس استهداف الخارج للثقافة المحلية مِعبراً لإلغاء الوجود والاستبداد بالمنافع. ويلهج اليسار في الدعوة والادِّعاء لافتراضٍ غيرِ مُنتِجٍ بِلُغةِ القضاء.
    والأسئلة المُحرجة التي ينبغي حصار اليسار بها هي: لماذا يؤدي اليسار العربي ذلك الدور الموهوم؟ لماذا لا يخوض اليسار العربي في أصالة فكره وإثبات قضاياه أكثر من الهجوم على الثقافة العربية والإسلامية؟ أين اللغة الأصيلة لليسار العربي، فما نسمعه من هجين "العربلاتينية" لا أبَ له؟ أم يحاول اليسار من التلاعب الفوضوي بالثقافات استزراع أوهام باسم الثقافة والهوية؟

الأربعاء، 14 ديسمبر 2016

أيها الشيوعيون... انضموا إلى الحركة الإسلامية

    بكل أسف لم أستطع تزويق العنوان أو عرض الأمر بطريقة مختلفة قد لا توفر الصدمة التي أتوقعها من هذا العنوان، وبالتالي أتخوف حقاً من عدم فهم مقصدي من الجدية والموضوعية التي أريد أن أسوق بها خطابي إلى أخوة في الوطن أجد كثيراً من الملتقيات التي تجمعني بهم ـ ولو ظاهراً ـ فأحب أن أبسط رداءً للتقارب بما سأقول...
    كنت قد رأيت أولاً أن أعنون بالدعوة إلى (المؤتمر الوطني) الذي هو الجناح السياسي للحركة الإسلامية السودانية، وعلى الرغم من أن الحزب يضم كثيراً من المسيحيين النصارى، إلا أني عنيت الحركة الإسلامية لأني لم أجد في كثير من الشيوعيين حاجزاً فكرياً بينهم وشعارات الحركة الإسلامية في السودان أو غيره من الدول الإسلامية وسأبيّن ذلك...
    قد كان لي أن أدعو أي يساري لتبني الاتجاه الإسلامي في العمل العام ـ وهو مدرسة في العمل العام أوضح من أي تجربة يسارية في الشرق الأوسط صحت أو فسدت تلك المدرسة ـ وفي ذلك معاني تحملني على دعوة الشيوعيين خاصةً إلى ذلك الاتجاه والمنهج لما أثبت الزمان لأهله وله من سمات، وهي: 
* أولها الجدية والجدوى فلولاها لما ظهرت سمات تلك المدرسة وثبتت في وجه الاجتياح والصراعات، حتى رسمت ملامح أنظمة شتى في دولٍ إسلامية للحكم والإدارة والاقتصاد والمظهر العام، بل وتعدت إلى دولٍ أوربية تعمل بالنظام المصرفي الإسلامي لما ثبت لها من جدواه.
* وثانيها الوضوح (كفاحاً) وعدم التدثر بشعارات مستعارة أو دعاوى دخيلة أو نمذجة مخلة وفاضحة، وفي ذلك أشير إلى استعمالها  المصطلحات الشرعية الإسلامية القديمة المتجددة، مما حدا بالمناوئين للإسلام من الشرق والغرب امتداح الإسلام والتورية في معاداته بعيب التطبيق المخل به أو الاتباع غير الصحيح له (الإسلام الشائه)، (الإسلام السياسي)، (الإرهاب)، (قوانين سبتمبر)، (الإسلاموية)...
* وثالثها اعتراف الفكر الإسلامي بالحقوق الفكرية السابقة كلها ولو كانت ضد الإسلام (خياركم في الجاهلية خياركم في الإسلام إذا فقهوا)، فاتباع الاتجاه الإسلامي في العمل العام يحفظ لصاحبه الحق في الاحتفاظ بكفاحه السابق في سبيل اكتشاف الحق ولو كان ذلك جهاداً سابقاً ضد الإسلام، فمن هو عمر بن الخطاب قبل الإسلام ومن أبو سفيان ومن خالد بن الوليد؟ ومن أحمد سليمان المحامي ومن عبد الباسط سبدرات ومن أمين حسن عمر ومن يس عمر الإمام؟ وأنا بالطبع لا أقارن أو أجمع هؤلاء إلى أولئك ولكني أقرِّب الصورة (لمن شاء منكم أن يتقدم أو يتأخر)، والبشر من طبعهم أنهم لا يرغبون في التخلي الكامل عن ماضيهم وتجاربهم السابقة وهي جزء من شخصياتهم ومكوناتهم المعنوية التي لا يتصورون كمال شخوصهم إلا بها.. كما أن تجربة الاتجاه الإسلامي السوداني تذخر بالنماذج من اليسار التي تبوأت أعلى المواقع فيها بعد التحول كما أشرت...
    وأمر أهم يجعلني أقدّم هذه الدعوة للشيوعيين على وجه الخصوص من دون بطون اليسار السوداني وهو أني لمحت كثيراً من السمات التي تجعلهم أولى بالاتجاه الإسلامي، فمن ذلك:
* الثقافة، والتنوير فهم قد سبقوا طبقات المكونات السياسية التي عاصرتهم في العلم والتثقيف فكانوا الأولى باكتشاف المنهج الإسلامي في العمل العام واكتشاف أهليته للتبني لولا العصابة العمياء التي ارتضوها ضده لاعتقادهم الخاطئ أن الطائفية التي عاصروها ونافحتهم أنها تمثل ذلك الاتجاه وترمز له، فاجتهدوا في بزها فغلبتهم بجماهيرها غير المتعلمة، لكن الشيوعيين لم ينفعهم وعيهم في التعامل مع الواقع والقبول به من غير الركون لنتائج جهودهم، ولكان حينذاك تحولهم للمنهج الإسلامي لا غبار عليه، وليس هذا القول من فراغ فربيبهم الرئيس الأسبق الراحل جعفر محمد نميري عليه رحمة الله فعل ذلك ولم يُعبه إلا من حسده من بطون اليسار.
    إلا أن الحق أن الشيوعيين لم تبدُ عليهم نجابة العلم بل التعالي به على مجتمعاتهم، إما فعلا بالإرهاب الجسدي بالمذابح مثلما تم في أكثر من حادثة تاريخية في السودان وغيره، أو باتخاذ هيئات في المظهر يتميزون بها على أعراف مجتمعاتهم حتى لكأن الشيوعي يبدو بين الناس بمظهره، وهذه الفعال أنتجت لهم عزلاً اجتماعياً مكّن غيرهم من التفوق عليهم.
* الإخلاص في خدمة شعاراتهم ولو اتخذوا من المنهج الإسلامي سبيلاً لنفعهم إخلاصهم ذلك.. فالنصارى عاب عليهم المولى عز وجل عدم إخلاصهم لشعارهم فقال:( ورهبانيةً ابتدعوها ما كتبناها عليهم إلا ابتغاء رضوان الله فما رعوها حق رعايتها)، فلو رعوها حق رعايتها لنفعهم ذلك. والشيوعيون خدموا شعاراتهم بإخلاص فلو عرفوا للمنهج الإسلامي سبيلاً لنفعهم إخلاصهم.
* مدافعة الطاغوت، وبالرغم من كونهم في ذلك (فرّقوا دينهم) بأن نافحوا الطاغوت الغربي ووالَوْا الشرقي ولو صدقوا لرموهم عن قوسٍ واحدة. وليس ذلك بصادّهم بل داعيهم فالمسلمون الأقدمون قبل الهجرة فرحوا لنصرة الطاغوت الغربي على الشرقي وغايرتهم قريشٌ ثم اتبعت المنهج الإسلامي بعدُ، فما بال الشيوعيين، الذين أكثرهم المسلمون.
      وليعلم الشيوعيون وغيرهم أن (كلمةُ الله هي العليا) آية، ويشمل ذلك المعترك السياسي بكل أجزائه، وهنا إضافةٌ أخرى وهي أن رهان الإسلام كاسبٌ كاسحٌ ولو كان مع غير الصادقين، لأن وعد الله الذي صدقته المعارك السياسية على امتداد التاريخ هو (ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلاً).. نألم كثيراً أن نرى أفاضل ضمهم ذلك الصف ألا ينهجوا الإسلام ويغتروا بالطائفة الغوغاء التي أعجبتها شعارات اليسار في الردح السالف ومظاهرها فلحقوا بها بعد أن نُحست، تشجِّعُهم على البقاء فيها...
      اللهم هل  بلغت،،،