إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

الأربعاء، 21 ديسمبر 2016

هشاشةُ "اليسار" السوداني ...الرسوبُ في مادة الثقافة الإسلامية



          كان من مثار دهشتي مغالبةُ أدْعياء اليسار السوداني من الشيوعيين والقوميين وآخرين من دونهم ـ يعلم المثقف السوداني صلة آرائهم النَّشاذ ولا يعلم لها مَحْملاً أو داعياً ـ أدهشني في بادئ الأمر ما ينمُّ منهم عن اطلاعٍ على كنوز الثقافة العربية مع موقفٍ غير مفهومٍ من الثقافة الإسلامية يعبِّرون عنه في كثير من الظروف بالمجافاة وعدم الاعتراف له بالفضل على الثقافة العربية، وإنْ اختصَ بهذا التصريح العلَامات من القوميين العرب! الذين جاءوا بعد قرون في وجه العروبة ادعاءً لو شهده سيبويه أومسكويه أوخالويه لَمَا ملَكَ إلا أن يضحك عليه... إلا أنَ دُعاة اليسار .. ومنْ على دربهم سار .. وَصَمهم هذا القرار واستووْا فيه، فما زالوا يُجافون الثقافة الإسلامية في مسيرٍ كان عصياً على التفسير .. حتى فضحهم في أخيرٍ من بني جلدتهم خبير..
          وقبل أن أُوْرد قول ذلك الأخير في التفسير، أذكرُ بعض ما أثار دهشتي من دهاقنة اليسار في الثقافة الإسلامية. فقد كان أول ما أدهشني هو كتابات "محمود محمد طه" صاحب نظرية "الجمهورية" في الدين الإسلامي وشريعة رسول الله محمد r، فقد ألَّف الرجلُ ديناً مرَكّباً على الإسلام، مستعملاً في ذلك ملَكَة فطيرة وهشّةً في تأليف الروايات وحبك القصص وتظليل المواقف مع تعقيدٍ لتراكيب الجُمل والعبارات، وأخرج ذلك في كُتَيِّباتٍ لو شاء الجاحظ أن ينحو هذا النحو في تسخيف الإسلام على غرار رسالته الموسومة بـ"التربيع والتدوير" لكان كل ما كتبه المدعو "محمود" فصلاً في إحدى كتب الجاحظ الذي مع جسارته في اللغة وإمامته في الفكر الإسلامي لم يألُ أن يبسط القول في كفاية القرآن منهجاً والشريعة عدلاً والإسلام ديناً، لا النداءات البائقات، أمثال "الجمهورية" و"القومية" أو "الاشتراكية" ولا غير ذلك من شعارٍ شِّغار. ومن مأثورات محمود محمد طه في المسرحيات المؤلفة من الشريعة، إدعاؤه أن المسلم يتدرج في التديُّن حتى يأخذ من الله عزّ وجلّ بلا واسطة، فيكون هو "الإنسان الكامل" الذي وصفه في كتاباته فجعل له صفات الله عزّ وجلّ تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً... وقد اقتبس المدعو هذه الفكرة "الدرامية" من حكم التشهُّد في الصلاة مع "حبكه" بمشهد "المعراج" ـ في حديث السيرة ـ وكلام الله عزّ وجلّ نبيه صلى الله عليه وسلم مِن وراء حجاب غيرَ كفاحٍ كما ثبت في الأحاديث. كانت هذه طريقة المدعو في تأليف الدين الجديد "الرسالة الثانية" للإسلام، مع غير الإشارة للمُرسَل بها، وواقع أتباعه يؤكد ألا مُرسَلَ بها، بل هناك راسلٌ وهو بينهم إنساناً كاملاً يطوفون حوله ويسبحونه وقد رُفعت عنه التكاليف فهو "المؤمن" أصالةً ويُصلي "أصالةً" بدون ركوع ولا سجود ولا شيئاً من أفعال الشريعة، فمن هو؟ هو محمود محمد طه، غير أنه لا يجرؤ أن يقول أنا ربكم. وقد سار المدعو في كتاباته كلها على هذا النحو مستغلاً بضاعةً مزجاةً من "السيرة" و"الأحكام" التي قد تتسنى لبعض الصغار في يومنا هذا وقد كانت يوم ذاك مما يُعظِّم الناس به شأن بعضهم، ولكنه برغم ذلك ما رعاها حقّ رعايتها.
وعلى الرغم من أني لا أنوي هنا مناقشة دينه المفترض إلا إني أورد بعض أمثلة تلاعبه بالأقوال، فمنها ما فسّر به ـ كما أحبَّ أن يُوهم ـ السنة النبوية فقال:( إن مما ألِف الناسُ أنّ سُنة النبي هي قولُه، وإقرارُه، وعملُه. والحق أنّ هذا خطأ. فإنّ قول النبي وإقراره ليسا سنةً، وإنما هما شريعة) ثم يقول:( والفرق بين الشريعة والسنة هو الفرق بين الرسالة والنبوة، أو هو الفرق بين مستوى الأمة من أعلاها إلى أدناها ومستوى النبي)، و(السنة هي عمل النبي في خاصة نفسه والشريعة هي تنزل النبي من مستوى عمله في خاصة نفسه إلى مستوى أمته ليُعلِّمهم فيما يُطيقون، وليكلِّفهم فيما يستطيعون) ثمّ يُرتَّب على هذه الحبكة النتيجة التالية:( ومرحلة العلم هي مرحلة الأمة المسلمة، وهي أمة الرسالة الثانية، وهذه الأمة لم تجئ بعد، وإنما جاء طلائعها فرادى على مدى تاريخ المجتمع البشري الطويل، وأولئك هم الأنبياء وفي مقدمتهم سيدهم وخاتمهم النبي الأمي محمد بن عبد الله عليه أفضل الصلاة وأتمُّ التسليم، وهو قد بشّر بمجيء هذه الأمة المسلمة، كما جاء برسالتها مجملةً في القرآن، مفصّلةً في السنة، وقد أسلفنا الإشارة إلى معنى السُنة)، فالرسالة الثانية بشّر بها محمد صلى الله عليه وسلم، كما بشّر برسالته عيسى عليه السلام، وهي جاءت مجملةً في عمل النبي في خاصة نفسه التي لم يطلع عليها الناس إلا عالمُ ما في النفس محمود محمد طه. وفي موضع آخر يقول:( الناس اليوم لا يملكون القدرة على التمييز الدقيق بين الإسلام والإيمان، فهم يعتقدون أن الإيمان أكبر من الإسلام، وقد ورّطهم في هذا الخطأ عجزهم عن الشعور بحالة الوقت، ذلك بأن الوقت الذي كان فيه هذا الفهم صحيحاً قد انقضى، وأقبل وقتٌ تطوّر فيه فهم الدين، وانتقل من مستوى الإيمان إلى مستوى الإسلام).
وما أدهشني هو أنه بتلك الطاقة في الكتابة والتأليف والاطلاع الذي لا يخفى مع كل تلك المآخذ، أما كان حرياً به أن يسبر غور الفكر الإسلامي مُتعلماً أولاً، فيُوجدَ له منفذاً ليُمكِّنه من واقع الناس الذين بعُدوا يوم ذاك عنه، بدلاً من أن يستغل جهلهم به فيُلبِّس عليهم؟
لكن ثمة سؤال مهم هو: هل كان محمود محمد طه مفكّراً إسلامياً أم سياسياً يسارياً؟ بل هو الأخير وإن حاول أن يُلبِّس حالته ويمسحها بوصف التصوُّف الإسلامي بإقحام الإنشاد الديني في فعاليات حزبه السياسي، أو باستخدام الذخيرة الثقافية الإسلامية في ضرب كل أركان وفحوى وأحكام ومفاهيم الإسلام "الرسالة الأولى" الذي "لا يصلح لإنسانية القرن العشرين"، فلا الصوفية تَسلمُ له لأن مشرب الصوفية هو التّلقي لا التأليفُ والابتداع والحبكات الدرامية، ألا ترى أنهم يُسمون مذاهبهم في التربية بـ"الطريقة" و"الطريق"، ويُقرون بأن شيخهم أخذ الطريق عن "فلان" وليس عن "شيطان". كما أن "الإسلامية" لا تسلم له إلا إن جوَّزنا منهج الدواعش الذين لا أصل لهم في حركات الدعوة الإسلامية اليوم وقد افتضحت نواتهم الأمريكية.
فنشأة الرجل وتاريخه وأتباعه وأشياعه وآراؤه كلها تدمغه باليسار سِحنةً وسِلعة. ما فضحه وعرّاه إلا جهله بالثقافة الإسلامية التي لم يجرؤ على تعلمُّها لاستنكافه أن يعترف لها بالعلمية، فهي "إيمان" حسب زعمه يحتل رتبةً يغيب فيها "العلم". مؤكداً بذلك استحقاقه لوصف الجهل بالإسلام جدارةً واقتدارا.   
          ثمّ تجلّى لي موقع اليسار في الثقافة الإسلامية تماماً بموقفٍ لي في مرحلة الدراسة الجامعية ونحن طلاب في دراسة القانون على يد أحد أجلاء علماء القانون الذين سلكوا دروب اليسار ثم آب إلى فيء العلوم الإسلامية فكان أحد أعضاء هيئة التدريس بجامعة القرآن، وقد قادته المواقف التعليمية في إحدى محاضراته ليروي لنا طُرفةً له مع صديق يساريٍ ضليع في القانون هاتَفَه يسألُه عن مصطلحٍ إسلامي أُجبر على التعامل به بعد أسلمة القوانين في السودان قائلاً:(لم نكد نعلم معنى "الغَرَرِ" حتى فاجؤونا بمصطلح "الغُبْنِ" و"الغُبْنِ الفاحش"!)، وقد أثار حيرتي حينها أنه كيف بقامةٍ "يسارية" لا يلجأ إلى الثقافة الإسلامية ولو كان قانونياً إلا "مَنْ أُكرِه".
          وعلى ذات الشاكلة فقد طالعت كِتاب أحد اليساريين السودانيين في نقد "التجربة الإسلامية"، بتحديد "الجبهة الإسلامية في السودان نموذجاً"، ودهشت أنه يرمي الدكتور حسن الترابي بتهمة ابتكاره "مقاصد الشريعة" من بنات أفكاره، فلم أتمّ قراءة الكتاب عملاً بقول أبي حنيفة:( لأبي حنيفة أن يمُدَّ رجليه) فمددتهما ولساني. ومن عجب الأمر أنّ المؤلف يمتلك مركزاً "ثقافياً"!!!
          دام عجبي طويلاً حتى استمعتُ يوماً إلى مفكِّر اليسار البروفسير عبد الله علي إبراهيم الذي جعل الموضوعية هاديَته وعُرف بها في مقالاته وآرائه، وقد سُئل عن سرِّ عداوةِ قبيلة اليسار سيما الشيوعيين للبروفسير الراحل عبد الله الطيب، فقال إنهم عادَوْه لأنه كان يحمل لواء العربية الفصحى وهم لم يستطيعوا أن يُخاطبوا الشعب بشعر فصيحٍ وقد فضح تمسُّحهم بالشعر في رغبتهم في استغلال الشعر وسيلة للتزلُّف للشعب من باب شعر التفعيلة، فكان صاحب رأيٍ جريءٍ في هذا الضرب من الشعر. إذن هم إن جهلوا شيئاً عادَوْه وأداروا له ظهرهم، وإن لم يجدوا بداً منه أتوْه من غير أبوابه، سِمَا الجاهلية الأولى إذ أمرهم المولى عز وجل قوله (وأْتُوا البُيوت مِن أبوابها).

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق