إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

الأحد، 18 ديسمبر 2016

التَعمِيةُ الثقافية ... كِهَانةُ اليسار العربي الحائر

    واحدةٌ من أهم ملامح اليسار العربي ومحاكاةِ أشباههم في السودان هي التعميةُ الثقافية إن صحَّ لي وصفُها، وهي ظاهرةٌ موصوفةٌ في الذهنية الإسلامية قديماً، ومجرَّبة في الصراع الحضاري للمسلمين الأوائل من بني إسماعيل في عهديهم المكي والمدني، وإن كانت هي أظهر في الثاني لارتباط المكان بقومية دخيلة وهي بنو إسرائيل الذين احتضنتهم الثقافة العربية فأنتجوا فيها لغةً مستحدثة واجتماعيات اختُصُّوا بها، بل وتعاَلوْا بها حيناً. وكان منهجهم هذا مثار صراعٍ للمسلمين معهم في أول الأمر حتى كسروا شوكتهم ثم تفاعلاً مع منتوجهم الفكري والثقافي في حِقََب الحضارة الإسلامية بعد الأموية إلى يومنا هذا، لأن التفاعل الثقافي والاجتماعي هو جِبِلة وخصيصة موجبة في النفسية العربية خاصةً والشرقية عامةً، وأقوى الدلائل على فاعلية الثقافة العربية هو إلغاؤها للعرقية في التفاعل الإنساني الأمر الذي أكسبها القبول الطاغي على حساب الثقافات التي انسابت إليها، فلعب المَوَالي فيها أدواراً لم تخصم من رصيدهم العرقي ولم تُذرِ بهم حتى يكون ذلك محملاً لمُحترزين .
     كانت وما تزال التعمية الثقافية سلاحاً أُحادي المأخذ في وجه الشرح السماوي لواقع الإنسانية والوجود الذي صاحب الرسالة الخاتمة، وتمددت التعمية الثقافية تدجيناً للغة لتؤدي وظيفةً افتراضية مناهضة لطبيعتها، وتحويراً للسلوك الإنساني ليقبل مفاهيم توجيهية غير أليفةٍ للطَّبع، وبذلك تُكمّم ملكات البشر لتكون أقصر مما في البهيمية، والغرض من كل ذلك كان مُعلَناً، وهو الاقتصار على معايشة النهار من الحياة، واختزال الدنيا في تلك الصفحة من اليوم، (وَقَالَت طَّائِفَةٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) آية، وما تزال هذه الحوامل والدواعي شاهدة في عالم اليوم الغربي في انحسار الرغبة في الذرية البشرية الولّادة، وفي اللغة لغرض الانتاج المعاشي الغريزي أولاً وأخيراً، وفي التعالي الأناني المختط من "الاستعمار" إلى "الإمبريالية".وفي الشح الذي تجسده أوربا إلا تركيا بإيصاد أبوابها أمام أرتال المهاجرين لظروف إنسانية.  
.. 
 وكما اتحدت الحوامل والبواعث قديماً وحديثاً فقد تماهت المناهج لذلك الغرض غير الجاد في التعامل مع الواقع "الصيروري" ولو بفعل فاعل إذ لا يُتصوَّرُ واقعٌ بغير فاعلٍ كما يغمز بذلك اليسار في رفضه للحضارة الإسلامية مواربةً.. وأعرض فيما يلي مشيراً إلى بعض تلك الأساليب المهترئة باسم الثقافة، فمنها:
=  التلاعب باللغة العربية بالاصطناع غير المنضبط بقواعدها والتماهي مع لغات الفرنجة تعريضاً بدونية العربية من الغربية فيكثر استعمال المتفرنجة لأداة التعريف "الـ" على الكلمات الإنجليزية أو الفرنسية دون انتشار لباقي اللغات الآرمية التي أسست التعالي الثقافي مثل الجيرمانية مثلاً، وابتدع بعضهم القول بإن الثقافة العربية هي مجرد سرقة أدبية آرمية مع كثيرٍ من الخيالية غير المجدية ...
    ومن ذلك التلاعبِ التشقيقُ المضلِّل للمعاني الموضوعة أصالةً انصرافاً عن "التصريف" الذي يحفظ للمفردات دلالات توليدية موضوعة، فمصطلح "الهوية" ينهض مثالاً على ذلك التشقيق من الضمير "هو"، وليس هو من ذلك في شيء، و"الاثنية" من كلمة "اثنين". والتشقيق مهمة لغوية غير الاصطناع، فالاصطناع ينزل بالمفردة عن درجتها في الدلالة اللغوية شأن الاصطلاح، وهو منه، أما التشقيق الذي ابتدعه اليسار العربي فهو محاولة في إطار إثبات سطحية العربية وعدم أصالتها، على النحو الذي نهجه في العناية بالعامية العربية واللهجات المحلية في القطر العربي على حساب الفصحى، وذلك عُقيب "الاستعمار" الحديث.
   ومن فنونهم في ذلك التلاعب ما يُمكن تسميته بـ"تظليل المفردات العربية" وإن تحدِّث القرآن عن هذه الظاهرة بدقّةٍ، فقال:(ومِنْ النَّاس مَنْ يَشْتَريْ لَهْوَ الحديثِ لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ علمٍ)، فانعدامُ العلميةٍ في استخدام الألفاظ كفيلٌ بضياع الغايات العملية منها، وبالتالي يصدق عليها وصف "اللهو"، فنرى اليسار العربي يلوكُ في العَمَهِ ألفاظ "المصير المشترك" و "حقوق الأقليات" و"الهامش والمركز" و "الحكم الراشد" ، وليس لهم أيَّ تجربة في الواقع العربي فيما يروجون من ألفاظ يظللونها بما شاءوا من أوهام "تجرِفُ الغِرَّ وتجترحُ الأماني".
=    ومن التناقض الثقافي عند اليسار استخدامهم المصطلح العربي لغرض إنكار الأصالة العربية في كثيرٍ من الأحيان، والتمايز باللغة تعالياً على الواقع في مناطحةٍ لفلسفة اللغة نفسها التي تعبُر بالناس جسراً للتواصل تواضعاً على المفاهيم الإنسانية.
    إنَّ الاستخفاف بالعربية يقابلُ الاغترارَ بها أُمّاً وأباً، وليس من هذا ولا ذاك الاعتزازُ الطَبَعِيِ بها جوهراً قيّماً فريداً في الألسن، وذلك مبعث الحرج الذي يُقحم اليسار العربي نفسيَّته فيه، فيتوارى بغيرها هرباً من التأصيل.
=    ومن أوجه التعمية الثقافية لليسار العربي القفزُ على الالتقاء الثقافي الجمعي، سيما على الموروث الثقافي العربي، من خلال التباهي بالإثنية بديلاً مفترضاً، في مغالبة لاجتماعيات الشعوب المحلية التي تجنح للتفاعل مع المطروح الثقافي بغير خجل ولا دونية وبصورة طبيعية، وفي محاولة لاستنهاض افتراضي لبدائل ثقافية مندثرة لا تمت إلى العالمية المعاصرة، وإن كانت غير عَصِيَّةٍ أو فاقدةً للقدرةِ على الظهور من جديد في العالمية، ذلك الشأن الذي لا نظير له في التاريخ الإنساني المعاصر على الأقل.
=    محاولات إلغاء المحصِّل الاجتماعي الإنساني المحلِّي للمجتمعات الإسلامية التقليدية، بدعوى أنه مَلْمَحٌ عنصريٌ أو فوقي استعلائي، في خدمة مجانية لأغراض الخارج في الاعتداء المُفسد بالضرورة، فغير خافٍ على عوامِّ الناس استهداف الخارج للثقافة المحلية مِعبراً لإلغاء الوجود والاستبداد بالمنافع. ويلهج اليسار في الدعوة والادِّعاء لافتراضٍ غيرِ مُنتِجٍ بِلُغةِ القضاء.
    والأسئلة المُحرجة التي ينبغي حصار اليسار بها هي: لماذا يؤدي اليسار العربي ذلك الدور الموهوم؟ لماذا لا يخوض اليسار العربي في أصالة فكره وإثبات قضاياه أكثر من الهجوم على الثقافة العربية والإسلامية؟ أين اللغة الأصيلة لليسار العربي، فما نسمعه من هجين "العربلاتينية" لا أبَ له؟ أم يحاول اليسار من التلاعب الفوضوي بالثقافات استزراع أوهام باسم الثقافة والهوية؟

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق