إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

الثلاثاء، 25 أغسطس 2020

 مربي الأجيال.. الأستاذ/ كمال جابر ... الإنسان العامر (2)

الأستاذ/ كمال جابر ... سيرةٌ وسريرة (1)

لقد كان للسيد/ محمد أحمد جابر وزوجه السيدة/ آمنة محمد علي دفع الله الشهيرة بـ "آمنة حِميْدَة" موعداً مع القَدَر في شهر مايو من العام 1950م لِيُولد لهما أستاذُنا الراحل/ كمال جابر ـ كما اشتهر اختصاراً عند الناس ـ كثالث الأبناء لهذه الأسرة الصغيرة يومذاك، فقد تمدَّدت الأسرة بعد ذلك وقبله، فضمت من الأبناء والبنات كلاً من:

·       أوَّل الأبناء: الأستاذ/ عبد المنعم محمد أحمد جابر، معلم اللغة الإنجليزية بالمدارس المتوسطة. وقد تزوج من السيدة/ اعتدال خليل علي خليل. والسيد/ خليل هو أحد أئمة مسجد دنقلا العتيق، وهو رجل من "الريف المصري" قدم إلى مدينة دنقلا بصحبة "السيد الأدريسي"، الذي اشتهر بالنسبة إليه فكان يقال له "خليل السيد"، وقد زوَّجه "السيد الإدريسي" من السيدة/ فاطمة فضل، التي اشتُهرت بلقب "فشودة"، وهي أول معلمة في محافظة دنقلا، إذ تمَّ تعيينها معلمةً في العام 1925م. وهي الأخت غير الشقيقة للشاعر الكبير/ شاكر مرسال الذي زامل السيد/ الرشيد الطاهر بكر ـ رئيس القضاء الأسبق للسودان ـ وذلك في مدرسة حنتوب الثانوية، وكان رئيساً لداخلية "عنجة" بها. ثم التحق بكلية غردون وكان من الرعيل الأول من خريجيها. ثم عمل بالتدريس ومن تلاميذه في مدرسة "كوستي" شاعر الحزب الشيوعي السوداني "عبد الله شابو". كما يُعد الشاعر شاكر مرسال الأستاذ المهلم لغالب شعراء اليسار السوداني في حقبة الستينات والسبعينات من القرن الماضي، أمثال الشاعر صلاح أحمد إبراهيم والأستاذ عبد الباسط سبدرات ومحمد المكي إبراهيم (أحد مفكري مدرسة الغابة والصحراء التي ظهرت في ستينيات القرن الماضي) وغيرهم. قال فيه الشاعر/ كامل عبد الماجد:( النقابي الشهير شاكر مرسال أيضا من ابناء حنتوب.. وان فاتني ذكره ضمن اهل السياسة والنضال الوطني). ومن أشعار "شاكر مرسال" ضد حكم الرئيس الأسبق الفريق/ إبراهيم عبود قوله:



وُلدتَّ سفَّاحاً فما أنتَ حُرْ..

واجِهْ مصيرَكَ أوِ انْتَحِرْ..

                                    

الشاعر/ عبد الله شابو

                                          وشعبي عظيمٌ .. وحزبي عنيدٌ شديدُ المِرَاسِ عظيمُ الخَطَرْ

                                 ومن أشعاره ضد الاستعمار:

                                      ها هو الخِنْجرُ في قبضة مَنْ مزَّق صدرَكْ..

                                      هو الحفَّارُ قد أوشك أن يُنْهِيَ أمرَكْ..

                                     أيُّها الشعبُ تحرَّكْ..

      وأنجب السيد/ خليل علي خليل من الأستاذة/ فاطمة فضل "فشودة" أبناءه الذين منهم السيدة/ اعتدال خليل زوجة أستاذنا الراحل/ عبد المنعم جابر. أما شقيقتها "نادية خليل" فهي زوجة السيد/ عبد الله شيخ إدريس
الأستاذ الراحل/ عبد المنعم جابر
شقيق الداعية الإسلامي الشهير بروفسير/ جعفر شيخ إدريس.

·       ثاني الأبناء السيدة/ حياة جابر محمد أحمد جابر، زوجة السيد/ صلاح الدين الحاج وقيع الله، الأخ غير الشقيق للأستاذ/ بشير الحاج وقيع الله"، وهو من أهالي حي "الديم" بمدينة دنقلا. كانت تجمعه صداقة وزمالة بالشيخ/ يس عمر الإمام حينما تزاملا في التدريس بمدارس مدينة كريمة.

·       ثم الأستاذ/ كمال جابر ثالث الأخوة في هذه الأسرة المجيدة.

·       ورابع الأبناء هي السيدة/ آمال محمد أحمد جابر وهي زوجة السيد/ "محمد خير علي حمدتو"، وهو من أهالي منطقة "حفير مشو" و"أرقو" و"القَعَب" بمحافظة دنقلا.

·     ثم الأستاذة/ نجاة محمد أحمد جابر، وهي زوجة الأستاذ/ إدريس حسن عبدربه، أستاذ اللغة الإنجليزية بالمدارس الثانوية بالولاية الشمالية، ثم المحاضر بجامعة دنقلا. وهو أحد الذين يجيدون تدريس اللغتين العربية والإنجليزية، بالإضافة إلى تدريس علم التجويد في القرآن الكريم. وقد تعرفت به أوّل عهدي به وهو يؤمُّ حلقات التلاوة لتعليم قراءة القرآن الكريم بمسجد السيد/ عبد المتعال "الفاروق" بدنقلا، في النصف الأول من عقد ثمانينيات القرن المنصرم، فما توقَّفتُ في فهم معنى كلمةٍ في القرآن أو إعرابها إلا وفتح عليَّ بها فأدهشني لمَّا علمت أنه معلم اللغة الإنجليزية، ثم توثَّقت علاقتي به جداً وصحبته فصار مرجعي وتعلمت منه الكثير.

والأستاذة/ نجاة هي إحدى أشهر معلمات اللغة الإنجليزية بالمدارس المتوسطة ومدارس الأساس بدنقلا، فقد عملت منذ تعيينها في العام 1977م معلمةً بالمدارس فعملت بعدد من مدارس دنقلا وما تزال.


الأستاذ/ إدريس حسن عبد ربه

        ثم الشاب الغريق/ عادل محمد أحمد جابر الذي استشهد غرقاً وهو طالب بمدرسة "دنقلا الأميرية المتوسطة" الشهيرة بـ "مدرسة بهاء الدين" نسبة لأشهر مديريها الأستاذ الراحل/ بهاء الدين الشيخ، وحينها كانت المدرسة تخرج إلى مدرسة وادي سيدنا الثانوية مائة بالمائة من طلابها. وكانت حادثة غرق "عادل جابر" في العام 1976م.  

·       ثم السيدة/ هويدا جابر زوجة ابن عمها السيد/ مرغني علي أحمد جابر.

وقد اتسمت طفولة وشباب الراحل الأستاذ/ كمال جابر بالمرح والهزل وإشاعة الحبور في منزل الأسرة الصغيرة، بل امتدت بالمرح والهزل علاقات صداقاته ومجالس أُنسِهِ فكان فاكهة المجالس في الأندية و"سوق دنقلا" حيثما حلَّ. ويَعجبُ المرء حينما يسمع هذه الصفات فيه شاباً ثم يراه بكل سمات الجِدِّيةِ والإصرار معلماً ومديراً للتعليم في المدارس والمعاهد. فقد سيطر عليه حبُّ الإنجاز على التمام والكمال، فكان اسمه "كمال" بارزاً في صفاته رحمه الله تعالى.

يحكى عن الراحل في طفولته اتِّصافه بالذكاء الفطري، فلم يكن ميالاً لاستذكار الدروس، فكان متفوقاً بغير استذكار.  فكان قلق أبيه "شيخ جابر" عليه كبيراً، خوف الانجراف بعيداً عن محيط التعليم، فقد كان الأب حريصاً على إكمال أبنائه مراحل تعليمهم حتى الجامعية منها، وهو الذي حرص على تعليم أصغر إخوته "عبده أحمد جابر" حتى درس بكلية غردون الجامعية وتخرج فيها. فكان أحرص على تعليم أبنائه كذلك.

درس الراحل مرحله التعليمية الابتدائية والمتوسطة متنقلاً بين مدارس مدينتي "مروي" و"شندي"، ثم امتحن الشهادة الثانوية في العام 1968م بمدرسة مدني الثانوية إبان فترة عمل والده بها، ولمّا ظهر نجاحه الباهر لم يجد والده على قيد الحياة، إذ توفي في ذات العام قَبلاً.

بعد إكماله المرحلة الثانوية تم تعيينه معلماً بوزارة التربية والتعليم في العام 1969م، وهو العام الذي شهد قيام "ثورة مايو" بقيادة العقيد أركانحرب/ جعفر محمد نميري وبعض ضباط الجيش السوداني فتحول الولاء الجماهيري الوطني العام بتلك الثورة من التقليدية إلى الانتماء الثقافي

والفكري مع البرامج الجديدة التي رسم آفاقها ومعالمها رموز ومثقفي اليسار السوداني المشبوبين بالأدب والفن والثقافة العمالية، فكانت الأغاني الثورية الحماسية من أشهر بلابلها الفنان محمد وردي، والشعارات الأخَّاذة، والإنجازات التنموية الكبرى لذلك الزمان. وكان لكل ذلك أثر كبير على جيل الأستاذ الراحل/ كمال جابر، فقد ناصر ذلك التحول في مجمله شأن الكثير من مثقفي بلادي. وكان من أشهر مؤيدي "الثورة التصحيحية" التي قام بها الرائد/ هاشم العطا، لكنِّي سألت السيد/ محمد عيدروس السنهوري الذي رافقه في ذلك الموقف من "حركة هاشم العطا" وسُجن معه، فأوضح لي أن موقفهم لم يكن عن التزام بتوجه الحزب الشيوعي يومذاك وإنما "فورة شباب" على حدِّ تعبيره، وقد أكدت لي شقيقته الأستاذة/ نجاة أن الراحل لم تكن له صلة بالحزب الشيوعي ولم يكم من مناصري التوجه اليساري، وعلى كلٍ فقد شهدنا الراحل وهو "حمامة مسجد عبد المتعال" بدنقلا، ومِن قبلُ من أكثر أساتذتنا تديُّناً والتزاماً رحمه الله.
مجلس قيادة ثورة 25 مايو  السودانية

عُرف الراحل الأستاذ/ كمال بحبه للرياضة شغوفاً بنادي الهلال العاصمي تشجيعاً وانتماءً، كما كان أحد الشباب المؤسسين والإداريين لنادي "الرابطة" دنقلا، وهو ثاني الأندية الرياضية بالمدينة بعد "النادي الأهلي" شيخ أندية دنقلا، فلم يكن النادي الأهلي يوم ذاك رياضياً بل كان النادي الثقافي الاجتماعي قبل أن يضم فريقاً لكرة القدم. وحبُّ الرياضة كان مغروساً في هذه الأسرة، فعمُّ الأستاذ/ كمال وهو "عبده أحمد جابر" كان من أميز لاعبي الكرة الطائرة في شبابه، كما كان أخوه الأكبر الأستاذ/ عبد المنعم من محبي الرياضة بصفة عامة.

                             

الشاعر/ أحمد محمد صالح

وعلى ذكر الرياضة في سيرة الراحل لا يستطيع المرء إلا أن يتوقف في ذكر "النادي الأهلي" الذي شكل جزءاً مهماً في التكوين الثقافي لرموز مجتمع الأستاذ الراحل وجيله والذين سبقوه. فقد تأسس النادي الأهلي في العام 1943م في بيت الراحل "عامر يس" بسوق دنقلا قبل أن ينتقل لمنزل الراحل "محمد عثمان السنهوري" والد قُطب "جماعة الأخوان المسلمين" السيد/ "جمال الدين السنهوري"، والذي صار أحد أشهر المنتمين للطريقة البرهانية فيما بعد. وأثناء إقامة النادي الأهلي بمنزل السنهوري كانت الندوة الشعرية الشهيرة التي ألقى فيها الشاعر السوداني "أحمد محمد صالح"ـ صاحب ديوان "مع الأحرار" ـ قصيدته الشهيرة في دنقلا إبَّان زيارته للمدينة في العام 1948م، والتي منها قوله:

 طابَ في "دنقلا" الغداةَ مقامي   فذَكَرتُ الربيعَ من أيامــي

جئتُها يائساً كئيباً مُعنَّىً        فشنفتنــي وجدَّدت أحلامــي

ذكَّرتني الشبابَ إذْ أناْ ريَّانٌ     أجرُّ الذيولَ بين الخيـامِ

                                        أتْبَعُ الطيرَ في البكور وألْهو     لا أبالي مقالة اللُّــــوامِ

                                        إن ذات النخيل قد سحرتني      يوم رُحْنا بنظرة وابتسام

                                        وبنفس النخيل اذ لقيتنــي         في دلالٍ واعتدال قَـوَامِ

                                        لا تلُمْني إذا تدلَّهتُ فيهـا      أو تماديتُ في الهوى والغرام

                                         نيلُها الواهبُ المباركُ ينسابُ    كريماً ما بين قومٍ كِـــــرام

                                        جودهم علَّم التدفُّقَ للسيلِ    وأَرْبَى على الحيا والغمام

                                        فإذا الضيفُ حلَّ فيهم تلقَوْهُ     بوجهٍ مهــلَّلٍ بسـَّـــــــامِ

                                         أَخذُوا عن نخيلهم في عُلاها   عِزَّة النفس وارتفاعَ الْهَـــامِ

الأستاذ/ عبد المنعم صالح

كان ـ رحمه الله تعالى ـ واسع الاطلاع، مثقَّفاً، محباً للشعر العربي. سئل الأستاذ/ مصطفى محمد يس عند استضافته في برنامج "جيل العطاء" الذي يتم تقديمه من إذاعة دنقلا عن الأستاذ الراحل/ كمال جابر وقد زامله في مهنة التعليم دهراً طويلاً، وكانا ألمع أساتذتنا في "مدرسة النميري المتوسطة"، فقال فيه:( رحمه الله كان رجل مثالي، رجل طيب، رجل وديع، رجلٌ لا يعرف الحقد.كمال جابر كان رجل نظيف، ظاهره كباطنه، وسرُّه كعلنه، وهذا هو الإخلاص نفسه، فالإخلاص أن يكون سرك كعلنك. يعشق مدرسة النميري، وعمل فيها بإخلاص شديد. كان مخلصاً وشاطراً ـ نجيباً ـ يجيد اللغتين، كان في اللغة العربية ممتازاً جداً، والتاريخ أيضاً).

الأستاذ الراحل/ مصطفى محمد يس (رحمه الله تعالى)
وقال الأستاذ/ عبد المنعم صالح علي سليم ـ في برنامج "جيل العطاء" ـ وهو صديقٌ حميمٌ لأستاذنا الراحل: (الأستاذ كمال جابر كان ما يُميِّزه على أقرانه وأترابه أنه كان ذكياً فطِناً لمَّاحاً يحفظ كثيراً من الطُرَفِ والمواقف والمُلَح.. ويهتم اهتماماً خاصاً بالأدب وذلك لا ينتقص من مقدراته الفذَّة والكبيرة في اللغة الإنجليزية فقد كان له فيها باعٌ طويل ... وكانت تجمعنا به صداقة خاصة... وكان قليل الكلام ولكنَّه إذا تكلَّم جاء كلامه طيباً بلسماً شافياً... وكان يُحب الفن والشعر، وعندما يدندن أو يترنم ببعض الكلمات غناءً تكون كلماتٍ متميِّزة... عشنا أياماً من أجمل أيام حياتنا برغم قسوة الحياة يومئذٍ في اليمن، فقد خفَّف علينا كثيراً من وَطأة الغُربة ومن وحشتها لأن "الغُربة كُربة، والأهل وطن" كما يقولون... كمال جابر كان رجلاً مُتميِّزاً وبفقده فقدنا الكثير، وقد رُزِئنا فيه كما لم نُرْزَء من قبل).                                                                                              
الشاعر/ صلاح أحمد إبراهيم

ولا يعجب المرء من اهتمام الأستاذ/ كمال بالشعر وهو ابن قبيلةٍ ذات أصلٍ عربي، عرف الكثير من أبنائها اهتمامهم بالشعر، بل بالغناء كذلك، فالمطرب بالغناء الشعبي السوداني "أحمد حسن جمعة جابر" الذي كان يُشكِّل ثنائياً غنائياً مع المطرب "مرغني المأمون"، فأنتجوا أعزب الطرب الشعبي السوداني فيما عُرف بـ"أغاني الحقيبة" دهراً من الزمان، فاشتهرا بالأغاني الوطنية، ومنها نشيد "جدودنا زمان وصونا على الوطن".



أحمد حسن جمعة جابر - ميرغني المأمون

الاثنين، 10 أغسطس 2020


الأستاذ/ كمال جابر
مربي الأجيال.. الأستاذ/ كمال جابر ... الإنسان العامر (1)
"أحمد جابر".. بيت العلم والعز والشرف

مثّل الحاج " أحمد جابر" إشاراتٍ للمجتمع والشخصية السودانية ذخُرت بها دهراً طويلاً في مجتمع الجزء الشمالي من السودان، ذلكم الإنسان السهل المُنتج في الحياة إفْعاماً بالحضور الاجتماعي والمشاركات الحيَّة في فعالياتها ... وذريةً صالحةً تملأ الفضاء الإنساني محاكاةً للقول السائر لابن العميد "الجاحظ الثاني" في حق الشاعر المتنبئ بأنه (ملأ الدنيا وشغل الناس) ... وسيرة طيبةً تمحو شقاء السنين ورهق الحياة، حتى يحسبها المطَّلع خلواً من كل تعاسة وراحةً من كل عناء.. هكذا بدت صورة الحاج "أحمد جابر" في مجتمع مدينة "دنقلا" في عقودها في النصف الأول في القرن العشرين، قادماً إلى أوارها ونورها من رحم قبيلة "الكبابيش" سليلة "جُهينة" الشهيرة في قبائل العرب بـ "الرواية" و"الحكاية"، حتى قيل فيهم:( وعند جهينةَ الخبرُ اليقينُ)، وفوق ذلك فقد عُرف عن "الكبابيش" في مجتمع الولاية الشمالية "النقد الاجتماعي المُنتج" الذي خلَّص مجتمعها الحضري من التكلف المُقعد عن تثوير الحياة واستثمارها بدلاً من العيش بالبهارج الفاشلة والإسراف في مظاهرها. فغيَّر ذلك وجه الحياة في ذلك المجتمع بفضلهم.

سكن الحاج "أحمد جابر" حي دنقلا جنوب مجاوراً لأهم أسرها العريقة في ذلك الحي من "النُزَهِيَّة" و"الأفندية" و"الشاويشية" و"آل خوجلي" و"الحميدية"، وما تفرع منهم من شخصيات عبرت باسم "دنقلا" إلى رحاب السودان الكبير بل والعالم العربي كأمثال الشاعر/ عبد المجيد وصفي الذي جاوب أمير الشعراء أحمد شوقي بأبيات يرددها بعض أهل "دنقلا".
عبد المجيد وصفي

   يقصُّ الرواةُ عن الرجل "أحمد جابر" أنه كان عاملاً في شركة "شَلْ" للمحروقات لدى فرعها في المدينة، وكانت مجالسه في سوق "دنقلا" تتوزع بين "دكاكين" التجار ناشراً للترحاب، ومصدراً للبشاشة، ومؤنساً يحتفي به كبارهم وصغارهم... وكان لزيماً لمجلس "الإمام" الشيخ العالم/ علي الإمام، إمام "المسجد الكبير" وعالم "دنقلا" ومفتيها، وهو والد البروفسير الراحل/ أحمد علي الإمام. ذكر الأستاذ/ فؤاد محمد عثمان شيخ أنه عاصر "أحمد جابر" ووصفه بأنه (كان أُميَّاً لا يعرف القراءة ولا الكتابة، سأل الله يوماً أن يحفظ سورة "يس" من القرآن الكريم، فأصبح من نومه يقرؤها عن ظهر قلب، فصار لا يدع قراءتها ماشياً كان أو جالساً. كان وجهه يشع نوراً، تشعر بالصلاح فيه، وكان أشبه أولاده به هو ابنه "علي أحمد جابر").

       
الأستاذ/ مصطفى محمد يس
كان "أحمد جابر" رحمه الله تعالى من رجالات جامع دنقلا العتيق، الذي أُطلق عليه وصف "الجامع الكبير"، وكان حينذاك جامعاً بحق، يجمع الكبار الذين ثقّلوا وزن البلاد يومها ورعاً ومهابةً، قال الشيخ الأستاذ/ مصطفى محمد يس: (تحسبهم في مجلسهم من الصف الأول في "الجامع
" رجالاً من شمع، لا يرمش لهم جفن ولا يتحرك منهم عضو ولا يلتفت منهم أحدٌ كأنّ على رؤوسهم الطير). ويجمع "الجامع الكبير"

فحول العلماء من أمثال الشيخ/ صالح الجعفري العالم الأزهري ومشاهير القضاة الشرعيين في السودان كالقاضي "سعيد العباسي" والد الشاعر السوداني الشهير. ويضم كذلك وريث العلماء الشيخ/ حسن أحمد حامد الشهير بـ "حسن إِحْميدي". ويجمع "الجامع الكبير" أعيان المجتمع الذين يُبرمون الأمور العامة ويفصلون في نواشب الشغار بين الناس فيلتئم المجتمع وتصفو الحياة.

    ولربما عاصر الحاج/ أحمد جابر أول إمامٍ لمسجد "دنقلا" العتيق الشيخ/ سليمان مدني الخزرجي المقبور فيما بعد بمقابر "قيامة" بحي "إرتدي" بـ "دنقلا"، وهو أحد أجداد أسرة "السناهير" بـ "دنقلا"..

      أنجب الحاج/ أحمد جابر أربعة من البنين كانوا مِلء السمع في مجتمع الولاية الشمالية والسودان.. وعمل على تربيتهم أكمل ما تكون التربية، وتعليمهم على نسق التعليم المدرسي برغم أميَّته، فكانوا نجوم مجتمعهم ورموزه.

أكبر أبناء الحاج/ أحمد جابر هو مربي الأجيال "محمد أحمد جابر" الذي اشتُهر بـ "شيخ جابر" حيث كان ينادى المعلمون حينها بلقب "شيخ" تقديراً وتبجيلاً. عُرف محمد أحمد جابر بالشخصية الأديبة باللغتين العربية والإنجليزية، فقد كان نابغةً ذكياً حذقاً، وكان شاعراً فحلاً. تخرج في "دار العرفاء" التي قامت مقام كليات التربية حينها في إعداد المعلمين، وهي النواة ا
الأستاذ/ محمد أحمد جابر (شيخ جابر)
لأولى لـ " معهد إعداد المعلمين" بمدينة "الدويم" بحي "بخت الرضا"، ودرس التربية بجامعة "بيروت" بعاصمة دولة لبنان، ثم عمل معلماً بـ "المدارس الأولية" في السودان بعدد من بقاع السودان شمالاً وجنوباً فقد عمل معلماً بمدارس "المديرية الشمالية" للسودان، وأشهرها مدارس "القولد" و"مروي" و"بدين" حينها. كما عمل معلماً بمدارس "توريت" وشهد بها الأحداث الشهيرة تاريخياً بـ " مذبحة توريت" وبأحداث 18 أغسطس 1955م. وقد خلدها بقصيدة الاستاذ الشاعر الهادي آدم وقد كان شاهداً على ذبح الكثير من زملائه المعلمين، منها قوله:

توريت يا وكر الدسائس والخديعة والدم      قد طال صمتك في الدجى هل آن أن تتكلمي
الغاب مطرقة الغصون على دجاك المعتم    والصـمت والليل الرهيـب وخادعات الأنـجم
لا شئ غير الريح تنفخ في رماد المأتم       ومغـارةً فـيـهـا المـنايــا الـســود فـاغـرة الفم
ونعيق ضفدعة تنوح بليلك المتجهم           يــا قِطــةً أكــلـتْ بـنـيـهــا وهي ظَـمْأى للدَّمِ
أمعنت قتلا في النساء وغيلة للمحرم         لم ترحـميْ حتى صـــغارهُمُو ولـم تترحمــي
والشيخ والحبلى فأيُ جريمة لم تجرمي       حتـى غدوتِ مـــع الدُّجى وكرَ الطُّيورِ الحُوَّمِ
ويروي ـ رحمه الله تعالى ـ قصة نجاته من تلك المذبحة فينسب الفضل في ذلك لأحد أبناء الجنوب الذين عملوا معه وحفظ له فضله في حسن المعاملة فطلب منه أن يتمدد في الأرض مثل القتيل، وتولى هو إيهام المهاجمين بأن "شيخ جابر" قتِل فانصرفوا ونجى بذلك من الموت، حتى أغاثته القوات الحكومية فقفل راجعاً إلى الخرطوم. وبعد عودته من "توريت" عمل ـ رحمه الله تعالى ـ بمدارس "كبوشية". كما عمل بمدارس مدينة "مدني" وكان مفتشاً للتعليم بها.

ثم ترقى إلى "ضابط تعليم" بمجلس دنقلا، حيث كانت "المديرية الشمالية" يومذاك و"الولاية الشمالية" حالياً تضم ثلاثة مجالس، أحدها هو "مجلس دنقلا".

وقد زامل رحمه الله تعالى في هذه المهنة الرسالية عدداً من مشاهير رجالات التعليم بالسودان عامة ومدينة "دنقلا" خاصةً، منهم الشيخ/ شاكر علي إسماعيل، إمام وخطيب مسجد "عبد المتعال" بـ "دنقلا". والأستاذ/ فؤاد محمد عثمان شيخ، الذي روى مشاهداته لـ "أحمد جابر" ومواقف شخصية لابنه محمد أحمد "شيخ جابر".  وصف أستاذ/ فؤاد محمد عثمان شيخ أستاذ محمد أحمد جابر بقوله:(الأستاذ ـ رحمه الله ـ محمد أحمد جابر عرفتُه وهو "ضابط التعليم" بـ "مجلس دنقلا" الذي كان يمتد بين "الغدَّار" جنوب "دنقلا" و"أبو فاطنة" شمالاً. وكان له يوم محدد وهو يوم الخميس للقاء كل أساتذة "دنقلا" من المرحلتين "الأولية" و"المتوسطة" ـ حينها ـ في منزله بحي "النصر" في مدينة "دنقلا". وكان كريماً جداً. وكانت له حديقة في فناء المنزل يلتقي بها المعلمين الذين كان يمثل لهم الوالد أكثر من كونه مديراً للتعليم. وكانت تسود مجالسه تلك
الأستاذ/ فؤاد محمد عثمان شيخ
المناقشات العلمية ونقل الخبرة التربوية والتعليمية). ويصفه بقوله:( كان الأستاذ/ محمد أحمد جابر طويل البال، لا يبت في المشكلات إلا بعد تقصي وتروِّي، ولذلك كانت قرارته صائبة جداً. وكان معروفاً بكثرة العمل والاجتهاد فيه خدمةً للتعليم. كان في أوقات فراغه يذهب إلى مكتبه فيمكث فيه الأوقات الطويلة يكتب موجهاتٍ بمثابة "دليل العمل" لما ينبغي أن يقوم به مدير المدرسة في إدارته للمدرسة، أو "المُوَجِّه الفني" في توجيه المعلم، وذلك استناداً على تجاربه وخبرته الطويلة في التعليم. وبناءً على صنيعه ذلك استحدثت إدارة تعليم "المرحلة المتوسطة" في "المديرية الشمالية" نظام الـ
Master File الذي يلزم مدير المدرسة بتسجيل ملاحظاته وآرائه في العمل، تعميماً لفكرة وتجربة الأستاذ/ محمد أحمد جابر). وقال:( كان طويل القامة، وكان أباً لأبناء مدينة "دنقلا" جميعاً، وكان شاعراً فحلاً، كان ينتهز فرص الفراغ والمؤانسة لطرح أسئلة علمية أو اختبار آراء المعلمين في موضوعات مفيدة وشيِّقة. وكانت زياراته للمدارس متكررة وينتظرها المعلمون لفائدتها ولا يُشعرهم بالتعالي الإداري).  

عند وفاته أعلنت مدينة "دنقلا" حداداً أغلق فيه صديقه "صابر عبد الوهاب السيسي" متجره بسوق "دنقلا"، ورثاه بقصيدةٍ من نظمه كانت أسرة الراحل تحتفظ بها إلى وقت قريب. كما علَّقت دُور السينما ـ "سينما قرشي" و"سينما عمر أبو الحسن" عروضها.
صابر عبد الوهاب (شيخ تجار دنقلا)

وهو والد عدد من الرموز، منهم الأستاذ/ عبد المنعم، وأستاذنا (كمال جابر) الذي نوثق لسيرته بهذه الأسطر والأستاذة/ نجاة إحدى قيادات التعليم بالولاية..

وحينما كانت يتلقى العلاج بمدينة "القاهرة" بجمهورية مصر العربية فاضت روحه إلى بارئها، فنُقل جثمانه إلى مدينة دنقلا" ودفن بمقابر "قيامه" بحي "إرتدي"، وذلك في العام 1968م.

وثاني أبناء الحاج/ أحمد جابر هو "علي" والد "ميرغني" الذي اقترن اسمه بفرع شركة "سودانير" بدنقلا، ووالد" عبد الله" لاعب كرة القدم لنادي "الرابطة" بدنقلا...

وثالث الأبناء هو "جمعة" والد الأستاذ (صلاح جمعة) أحد قادة التعليم الأساسي بالولاية الشمالية..

ورابع أبناء الحاج/ أحمد جابر هو (عبده أحمد جابر)، وهو خريج "كلية غردون" قسم "الآداب"، زامل فيها من مشاهير "دنقلا" المربي/ محمد علي أحمد وهو أحد قيادات التعليم التاريخيين بـ "المديرية الشمالية".

وقد شغل (عبده أحمد جابر) وظائف سياسية عليا في السودان، فقد شغل منصب "ضابط إداري مدينة الناصر" في جنوب السودان. أما في الولاية الشمالية فقد كان "ضابط مجلس دنقلا"، وهي وظيفة تعادل حالياً درجة "معتمد محلية". وقد كانت "المديرية الشمالية" حينها تضم ثلاثة مجالس،
جعفر محمد نميري
هي: "مجلس دنقلا" و"مجلس مروي" و"مجلس عبري". وكانت مدينة "حلفا" تتبع حينها لرئاسة "الإقليم الشمالي" بمدينة "الدامر". ثم ترقى (عبده أحمد جابر) إلى درجة "مفتش" وهي درجة تمكن شاغلها من الإشراف على أكثر من "مجلس"، ثم ترقى عند مجيء حكم نظام "ثورة مايو" إلى درجة "محافظ الولاية الشمالية" التي شغلها لمدة بين عامي 1969م -1970م وبذلك فهو أول "محافظ" للمديرية الشمالية في عهد حكم "النميري" للسودان. ومما يؤثر عنه أنه أول من ركب السيارة نوع "فلوكسواجن" في المديرية الشمالية، وكان أهل المدينة يترقبون حركة السيارة كل صباح انبهاراً بها.

توفي سنة 1970م وهو يلقي خطاباً جماهيراً بمدينة "مروي" بمناسبة الذكرى الأولى لقيام "ثورة مايو" وذلك إبان أول زيارة للرئيس الأسبق "جعفر النميري" للولاية الشمالية. ونُقل جثمانه من مدينة "مروي" فدُفِن بمقابر "قيامه" بمدينة "دنقلا".

ولـ "عبده أحمد جابر" ابنٌ واحد هو (عاصم عبده أحمد جابر) المقيم بالمملكة العربية السعودية منذ أمد بعيد.
وللحاج/ أحمد جابر عدد من البنات تركن سيرة طيبة في مجتمعاتهن.
جمعة أحمد جابر