إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

الأربعاء، 16 أغسطس 2023


  ذكريات الأستاذ/

     عمر عبد العزيز

             و

بدايات التعليم النظامي في مدينة دنقلا

                 (1)

مدينة دنقلا من بين أول ثلاث أو أربع مدن سودانية بدأ فيها التعليم المدني في السودان، وذلك في "عهد التركية السابقة"، تزامناً مع إنشاء "مدرسة رفاعة رافع الطهطاوي في الخرطوم". ثم كان تأسيس "مدرسة دنقلا الأولية" سنة 1902م في عهد الاستعمار من بين أول خمس مدارس أنشئت في ذلك العهد، ولم يكن ثمة مراحل للتعليم في ذلك العهد سوى المدارس الأولية، ومن هنا تبدو عراقة التعليم في دنقلا. ثم ألحقت بجوار هذا المدرسة مدرسة أولية لتعليم البنات على طريقة مدرسة بابكر بدري ورفاعة لتعليم البنات.

ثم استقلت مدرسة البنات في ثلاثينيات القرن الماضي. وفي مدارس البنات الأولى نبغ اسم المعلمة الشهيرة بدنقلا/ فاطمة فضل، التي اشتهرت بلقب "فشودة"، وهي زوجة إمام مسجد دنقلا العتيق الشيخ/ خليل علي خليل الشهير بـ"

الأستاذة المرحومة/ فشودة
خليل السيد". فقد كانت الناظرة/ فشودة مربيةً حازمة صارمةً مهابةً إلى درجة الرعب.

مولانا/ شاكر علي إسماعيل
بجانب هذه البداية كان انتعاش الخلاوي في القيام بدورها في التعليم الديني، وقد اشتهر منها بمدينة دنقلا تلك الخلوة التي ألحقت بمسجد دنقلا العتيق في جزئه الشمالي الغربي - فكانت بمثابة المدرسة النصفية للصف الأول والثاني (أولى وثانية)، ولم يكن مكوث التلاميذ فيها محدد بفترة زمنية قصوى. وقد اشتهر من شيوخها الشيخ/ طاهر بشير، نسيب كل من المعلم/ حامد أبو القاسم والسيد/ مرتضى الشروني، ومن أشهر تلاميذه في تلك المرحلة الباكرة أستاذنا الشيخ/ محمد زبير رشيد، وقد وصف الشيخ/ محمد زبير بهجة الحياة الدراسية في هذه الخلوة، تلك البهجة التي غرستها موائد "البليلة" للتلاميذ، و"الخميسية" وهي مصاريف مالية تبلغ قيمتها "تعريفة" وتعادل خمسة "ملاليم"، وذكر الشيخ/ طاهر بشير قصيدته تلك وأثنى عليه. ثم خلف الشيخ/ طاهر بشير على شياخة تلك الخلوة الشيخ/ حامد أحمد النجار، ثم خلفه عليها الشيخ/ أحمد باشكاتب، والذي دخلت الخلوة في عهده. وسبب دخولي تلك الخلوة أن الشيخ/ عبد الغني صالح الجعفري كان معلماً في تلك الخلوة وكان مشرفاً على نشاط "الكشافة" فيها، وكان من نشاطها أن تصبغ القمصان بألوان زاهية جذبتني لدخول الخلوة حباً في ذلك النشاط أكثر من حبي للتعليم في الخلوة، وكنت حينذاك مقيماً مع جدي لأمي المرحوم/ سعيد ناصر، فكان خادمه يأخذني للخلوة ويعيدني منها للبيت لصغري. وفيها تعلمت القراءة في العام 1947م كان عمي المرحوم مولانا الشيخ/ شاكر علي إسماعيل معلماً في المدرسة الأولية،
الأساتذة أحمد الباشكاتب (يمين)
وعبد الغني صالح الجعفري (يسار) بملابس الكشافة

وكان قد تزوج حديثاً، وكانت من عادته أن يذهب كل مساء إلى نادي الموظفين للأنس ولسماع أخبار الحرب العالمية الثانية، حيث لم تكن بمدينة دنقلا أندية سوى نادي الموظفين الذي كان يتوفر فيها مذياع "راديو"، وذلك قد أن يشارك هو وآخرين في إنشاء النادي الأهلي بدنقلا في العام 1948م. وكانت زوجته (خالتي) من الرعيل الأول الملتحقات بمدارس البنات غير أنها لم تكمل تعليمها فيها بسبب الصرامة الفظيعة وسياسة العقاب التي نفَّرت الكثير منهن، وكان عمي الشيخ/ شاكر يتركني مع زوجته حتى لا تخاف الوحدة ليلاً حتى يعود من النادي، وكان له كتاب "المعلم" للصف الأول "الأولية"، إذ لم تكن الكتب مخصصة في المدرسة إلا للمعلم. فكانت فرصتي أن اطلعت على الكتاب ودرسته جيداً بجانب اطلاعي على "مجلة الصبيان" التي كان يحضرها عمي لأجلي. وفي أواخر العام 1947م وعندما حان موعد "امتحان النقل" لتلاميذ الصف الأول في المدرسة الأولية استأذن عمي "الناظر" حينذاك الشيخ/ عبد المجيد قناوي أن يتم امتحاني مع تلاميذ الصف الأول لتحديد مستواي من حيث القبول أو الرفض للانضمام للمدرسة، وقد كان أن أحرزت المركز الثامن من
أ. مصباح الناظر

بين تلاميذ الصف الأول فقبلني الشيخ/ عبد المجيد قناوي تلميذاً رسمياً في الصف الثاني "أولية" وعمري حينذاك صغيراً جداً بين تلاميذ ضخام الحجم وكبار السن. وقد تولى تعليمنا بالصف الثاني "أولية" من المعلمين الأساتذة/ مصباح محمد إبراهيم (معلم الحساب، وهو من قرية شيخ شريف) والشيخ/ محمد زبير بشير في تدريس الدين والشيخ/ عبد المجيد قناوي في تدريس اللغة العربية (العربي). وقد كانت لأستاذنا/ مصباح محمد إبراهيم طريقة فريدة في تحفيظنا جداول الضرب التي يضعها على شاكلة صورة الساعة التي تدور على كل الجداول وكذلك طريقة فريدة في استخدام علامات العمليات الحسابية أفادتني في مهارة عدم استخدام الآلة الحاسبة في إجراء العمليات الحسابية. وقد كان الأستاذ/ محمد زبير بشير رساماً ماهراً ملأ المدرسة بالرسومات وذلك الشيء الذي جعل المدرسة محبوبةً جداً للتلاميذ، ومن تلك الرسومات صور كتاب "كسب العيش في السودان" - ريرا والجفير وصديق عبد الرحيم، التي زيَّن بها "برندات" الفصول، وكذلك صورة "أسطى صابر" وهو جد الأستاذ/ كمال قاسم لأمه، وكان رئيس العمال في دنقلا، وكان منزله يومذاك مقابلاً للمدرسة في مكان "صيدلية صابر" و"صيدلية الشفاء" الحالية بشارع المستشفى القديم، وقد كان "أسطى صابر" صاحب مبادرة صيانة المدرسة في زمن الاستعمار، ولذلك قام الشيخ/ محمد زبير بشير برسم صورة كبيرة له فيها. وكان مما يحبب المدرسة لنا كذلك وجود "سدرة" - شجرة "نبق" كبيرة بها نتلقى منها "حلو الثمر"- ولذلك كنا نجلس بالمدرسة بعد نهاية اليوم الدراسي لنا - نحن تلاميذ الصف الثاني - حتى ساعة خروج تلاميذ الصف الرابع وقد نأتي إليها مساءً وليس إلزاماً علينا الحضور ولكنه حب المدرسة وحب مشاهدة المناشط الرياضية التي يمارسها مساء تلاميذ الصف الرابع. ولكن العامل النفسي الكبير كان للمنهجية التربوية لأولئك المعلمين الذين حفروا في نفوسنا مشاعر أبوية عميقة ربطتنا بهم وبها. وقد درسنا في الصف الثالث ثلاثة كتب للمطالعة في 
مولانا/ شاكر علي إسماعيل

مقرر اسمه "العربية المحبوبة"، وكنا نسمى الكتاب باسم أول قطعة فيه، فكانت أسماء الكتب الثلاثة هي: كتاب "كلب عبد الجليل" وكتاب "طه القرشي" وكتاب "التحفة السودانية "، ومن العجائب أن الذي قام بتدريسنا كتاب "التحفة السودانية" هو السيد/ عبداللطيف العميري والد كلٍ من الطبيب الشهير/ عبدالفتاح العميري، والمهندس/ علي العميري، ومدرب التنمية البشرية الدولي/ د. عبد المنعم العميري، ولم يكن السيد/ عبد اللطيف العميري ممتهناً للتدريس بل كان حينذاك "ترزياً" بدكان "يسن العميري" بسوق دنقلا قبل أن يستوظف بمصلحة "السجلات" بالقضائية. ومن فرط تعلقنا بكتاب "التحفة السودانية" بسبب طريقة عبد اللطيف العميري في تدريسه أننا كنا نحفظ القطع التي احتواها الكتاب كالقصائد الشعرية، فكان أول درس فيه بعنوان "محاسبة النفس" وثاني الدروس بعنوان "محبة الوالدين" وأخرى عن "اللورد كتشنر" ورابعة عن "غردون باشا"، وهكذا. في هذه الفترة كان عمي مولانا الشيخ/ شاكر علي إسماعيل قد ترك العمل بالمدرسة منقولاً للعمل بمدرسة بمدينة "شندي".

       لم يكن من "مدرسة وسطى" حينذاك في ولايتي "الشمالية" و"نهر النيل" غير "مدرسة حلفا" في "الولاية الشمالية" و"مدرسة بربر" في "ولاية نهر النيل"، وذلك قبل أن تُفتتح "مدرسة القولد الوسطى" في العام 1944م، والتي أسسها "مؤتمر الخريجين"، وقد أشرف على تأسيسها وافتتاحها جدنا المرحوم/ عبد الرحمن عبد الله عبد العال - شقيق المرحوم الزعيم الاتحادي/ عبد الكريم عبد الله الفيومي والخال الشقيق 
عبد الرحمن عبد الله عبد العال الفيومي 

للأستاذ/ إسماعيل عبد الله خليفة – وهو أول ناظر لها، وقد كان زعيماً سياسياً من "الوطنيين الاتحاديين". وقد كان المرحوم الأستاذ/ عبد الرحمن معلماً زامل الزعيم/ إسماعيل الأزهري في التعليم "بكلية غردون" والمدارس بعد أن تتلمذ على يديه، ومن فرط وطنيته حينها أن استقال من العمل الحكومي ليتولى الإشراف على افتتاح مدرسة القولد الوسطى عن مؤتمر الخريجين في العام 1944م، ويتقاضى راتبه من مؤتمر الخريجين، وقد استجلب لبناء المدرسة اثنين من أمهر "معلمي البناء" بمدينة دنقلا حينذاك، وهما الأخوان، السيد /أحمد حسين كدفري، والسيد/ محمد حسين أبشنب، والد الأستاذ/ الشهير حسن أبشنب وجد الحكم السوداني الدولي/ الفاضل أبشنب، وقد أخلص الأخوان في العمل بهذه 
أ. حسن أبشنب
المدرسة وعملا لساعات طويلة في الحر الشديد وكان ذلك سببا في فقدهما حاسة البصر في أواخر 
أعمارهم رحمهم الله تعالى.

وقد امتحنا للمدرسة الوسطى في مدرسة القولد الوسطى. ولم يكن من اليسير في ذلك الزمان أن ينجح التلاميذ للدخول للمدرسة الوسطى وتخطي المرحلة الأولية بعد الدراسة فيها لأربع سنوات فقط، ولم تكن فترة الدراسة بالمرحلة الأولية مقيدة بالأربع سنوات فكان التلاميذ يقضون بها ما شاء الله لم أن يقضوا، وقد سجل الرقم القياسي للدخول للمرحلة الوسطى من أربع سنوات أولية كلٌ من يسن عبد العظيم قناوي ودكتور فضول سعيد - ابن أخت/ علي رشيد وزوج ابنته - وقناوي حسين من أبناء دنقلا فقد نجحوا لدخول المدرسة الوسطى من أربع سنوات، فكانوا لنا نماذج يجب أن نقبل التحدي للاقتداء بها، وصادف ذلك عودة مولانا/ شاكر علي إسماعيل إلى مدينة دنقلا ووجود الأستاذ/ فؤاد

أ. فؤاد خليل إبراهيم
خليل فشجعانا لذلك السبق واجتهدا معنا في الدروس الإضافية في الفترات المسائية بالمدرسة. وبفضل تلك الجهود نجحنا نحن ثلاثة من دفعتنا لتحقيق ذلك الإنجاز بالالتحاق بالمدرسة الوسطى بالنجاح من أربع سنوات بالأولية، وثلاثتنا هم: الأستاذ/ نقد مرغني (من حي إرتدي)، والمهندس/ عبد الرحيم أحمد يس (من دنقلا) وشخصي.

وفي مدرسة القولد الوسطى كانت الحياة الدراسية صعبة جداً لكون المدرسة هي "أهلية" وكونها "داخلية"، وقد وثَّق الأستاذ/ إبراهيم سيد أحمد السنهوري تلك الصعوبة في قصيدةٍ له في تلك الحقبة. ومنذ أن دخلناها وحتى تخرجنا فيها كان لزاماً أن يكون أول السودان في امتحانات المرحلة الوسطى 
أ. إبراهيم سيد أحمد

من تلاميذ مدرسة القولد الوسطى، فكان أول السودان في عهدنا بها في السنة الأولى كان أول السودان منها شخصيةً عصاميةً فريدة، بدأ حياته "فراشاً" بمجلس دنقلا، ولكونه كان قد أكمل دراسة المرحلة الأولية فقد أصر على تكملة تعليمه فامتحن للمرحلة الثانوية من مدرسة القولد الوسطى فكان أول السودان" وصار فيما بعد طبيباً مشهوراً هو الطبيب/ علي بعنيب. وفي الدفعة التالية كان أول السودان المناضل السياسي الشهير في "جماعة الإخوان المسلمين" الشهيد د. محمد صالح عمر - ابن جزيرة بدين - ثم كان "أول السودان" في الدفعة التالية موسى سعيد موسى ابن عمدة مدينة "الدبة". وبعد انتهاء فترة الناظر/ عبد الرحمن عبد الله تولى إدارة المدرسة الناظر/ عبد الرحمن أحمد عيسى الذي حافظ على مسيرة المدرسة المتفوقة، وقد كان زعيماً سياسياً "حزب أمة". وكانت دفعتنا في مدرسة القولد الوسطى هي آخر دفعة درست فيها كمدرسة "أهلية" وبعد تخرجنا تحولت المدرسة إلى مدرسة "حكومية" وذلك في العام 1956م.

وكانت المدارس المتوسطة هي المحطة الأخيرة التي ينتقل التلاميذ منها إلى إحدى المدارس الثانوية الثلاث الحكومية التي كانت في السودان يومها، وهي "مدرسة وادي سيدنا الثانوية" و"مدرسة حنتوب الثانوية" و"مدرسة خور طقت الثانوية". وكانت هذه المدارس تقبل عدد (360) تلميذ الأوائل 
د. محمد صالح عمر

من المدارس المتوسطة، ثم يلتحق الآخرون بإحدى المدارس الأخرى وهي " المدرسة الثانوية الأهلية" و"مدرسة الأحفاد الثانوية" و"مدرسة المؤتمر الثانوية" و"مدرسة بورتسودان الثانوية" و"مدرسة التجارة" و"معهد المعلمين ببخت الرضا" و"معهد المعلمين بشندي" الذي افتتح بعد العام 1954م، وكانت هذه مدارس "أهلية". وكانت المدارس الثانوية الأولى الحكومية تكتفي بعددها من التلاميذ من مدارس الولاية الشمالية ومدارس ولاية نهر النيل الثانوية حينها (حلفا - القولد - مروي - بربر - عطبرة الأميرية)، بل وحدث أن احتجت مدرسة "خور طقت" الثانوية أن حصتها من أوائل السودان من التلاميذ الشماليين يقل عن "وادي سيدنا" و"حنتوب" اللذين يستوعبا (240) تلميذ منهم ويبقى لـ"خور طقت" عدد قليل منهم تضطر لاستيعاب تلاميذ من غير تلك المدارس، فتغيرت بسبب ذلك سياسة القبول لتلاميذ مدارس الولاية الشمالية المتميزين فصار بعضهم يُقبل بمدرسة "خور طقت" برغم تفوقه على آخرين قبلوا بمدرسة "وادي سيدنا" أو "حنتوب" ومن هؤلاء التلاميذ المتميزين الذين قبلوا بمدرسة خور طقت د. يسن قناوي حسين ود. فضول سعيد برغم تفوقهم عملاً بسياسة القبول المتوازنة.

م. عبد الرحيم أحمد يس

لقد كان للرعيل الأول من معلمي المرحلة الأولية والوسطى الأثر الكبير في توطين وتوطيد وشيجة التعليم بين أبناء الولاية وحبهم له، فمن أولئك المعلمين الأساتذة/ عبد الرحمن عبد الله وعبد المجيد قناوي والشيخ شاكر علي إسماعيل ومحمد زبير بشير ومصباح محمد إبراهيم، ثم جاء خريجو "بخت الرضا" من المعلمين، فمنهم الأستاذ/ فؤاد خليل، ثم من أواخر المعلمين المتميزين ظهوراً هو الأستاذ/ بدر عبد الله خليفة. ولأضرب مثلاً على إخلاص أولئك الجيل من المعلمين الأوائل من أهل دنقلا أذكر أن الأستاذ/ عبد الرحمن

عبد الله الفيومي سعى لاستقطاب أبناء المدينة للتعليم بشتى السبل، وذلك في الدفعة الأولى في مدرسته، فمن هؤلاء من كان يعمل مع أبيه في حرفته ومنهم من كان عاملاً في سوق دنقلا وغير ذلك فأخرج منهم المعلمين والموظفين فأخرج بهم الأسر الفقيرة المعدمة من فقرها ونشل أبناءهم من الجهل إلى العلم، فمن تلاميذه من هذه الشاكلة الأساتذة/ فؤاد عبد الله عبيد وحسن أبشنب وبدر عبد الله خليفة وخوجلي محمد خوجلي وأحمد عبد الحفيظ.

بالنسبة لنا ولكثيرين من جيلنا لم تكن الجامعة حلمنا لمعرفتنا بظروف أسرنا وحاجتهم للمساعدة في تكاليف الحياة، ولكن مع ذلك حال تقديرنا "الدرجة الثانية" (GRADE2

أ. أحمد عبد الحفيظ
) في "شهادة كامبرج" دون التحاقنا بالجامعة، وكان سبب حصولنا على أن لجنة تصحيح الشهادة اعتبرت دفعتنا سقوط جماعي في مادة التاريخ بسبب التشابه الشديد في الإجابات، وسبب هذا التشابه أن أستاذنا/ صالح محمد صالح كان معروفاً بصدق التكهنات ( SPOTTING) في الامتحانات، فحفظنا توقعاته وأجوبتها عنه، وصدقت كل توقعاته، فلم نتوقع سوى تقدير ممتاز في مادة التاريخ، فقررت اللجنة اعتبارنا "حالة غش جماعي" فقررت ترسيبنا في مادة التاريخ فهبط تقديرنا إلى (GRADE2) فحرمنا من دخول الجامعة بسبب ذلك برغم زهدنا فيها بسبب ظروف أهلنا. فولجنا مجال العمل الوظيفي الذي كان طموحاً كبيراً لنا.

أول تجاربي في مجال العمل الوظيفي أني قررت أن أمتهن "مراجعة الحسابات" لفترة مؤقتة حتى أجد وضعاً أفضل، لأن درجة (GRADE2) كانت تؤهل إلى وظائف أفضل، وقد علمت بأن السيد/ محمد البشير القاضي نائب المراجع العام حينها - وهو من أول ثلاثة سودانيين حصلوا على شهادة المحاسبين القانونيين - من أبناء قرية "

البشير محمد أحمد القاضي
شيخ شريف"، فذهبت إليه وقبلني وسعد بذلك واهتم بي اهتماماً بالغاً وشجعني بوعدي بالالتحاق بـ"المعهد الفني" للحصول على شهادة المحاسبين القانونيين، ولكن مهنة المراجعين لم ترق لي لأني من محيط أسري مليء بالمعلمين، فكانت نفسي تميل للعمل بالتدريس، فاستقلت من العمل للرجوع إلى دنقلا وخدمة أهلي بالتدريس فيها.

بعد استقالتي من العمل الحكومي جئت إلى دنقلا، وكان أهلها قد أنشأوا في العام 1950م "مدرسة دنقلا الأهلية الوسطى"، وكان أول معلم بها هو الأستاذ/ صابر أحمد يس. فالتحقت بالعمل في المدرسة الأهلية. كان على إدارة المدرسة علمان من أعلام الحزب الشيوعي هما الناظر/ كامل محجوب ونائبه/ آدم أبو سنينة. وفي العام 1960م-1962م كنت محظوظاً أن تم اختياري لكورس التدريب قبل أوان دفعتي في التدريب، وبالرغم من أني كنت قد تدربت في تدريس (اللغة الإنجليزية والعلوم والرياضيات) إلا أنني حُرمت من تدريس تلاميذ السنة الرابعة بالمدرسة، تلك الدفعة التي ضمت الشهيد/ كمال علي مختار. ومن ذكريات الأحداث الشجية في تلك الفترة، أن حدث شجار بين الطالب/ كمال علي مختار وأحد أبناء أعيان مدينة دنقلا في اللجنة الشعبية لتسيير المدرسة، فرأى ناظر المدرسة/ كامل محجوب أن يغير تقرير الطالب/ كمال علي مختار فيصفه بأنه مشاغب ومعيق الأمر الذي كان سيحرمه من دخول المرحلة الثانوية حتى ولو أحرز تقديراً يؤهله لها،

كمال علي مختار

ولني رفضت بشدة هذا الإجراء بحجة أن الطالب أكمل الدراسة بالمدرسة واستلمنا كتبه ولم يعد طالباً بالمدرسة، وأنه لا يتحتم في هذه الحالة سوى خياران إما أن يعتبر الطالب مستمراً في التحاقه بالمدرسة فيعاقب عقاباً تربوياً أو يُعتبر خارج قوة المدرسة فيتعين اعتبار الحادثة (
Police Case)، واحتد النقاش في هذا الأمر في اجتماع هيئة التدريس بالمدرسة حتى انتهينا إلى التصويت على القرار، فساند المدير ونائبه أستاذ ثالث شيوعي اسمه الريح الحسن من (كريمة البركل)، وعارضنا نحن أربعة: أنا وعبد الحفيظ محمد خير (من جزيرة مقاصر) وعوض سعيد (من قرية كويا) وأستاذ/ حسان (من ولاية الجزيرة) فسقط قرار المدير، غير أصروا على أن تتم معاقبة الطالب/ كمال علي مختار بالمدرسة، فطلبت من أصدقائه التلاميذ حينذاك: صابر أمين وصلاح مرتضى إخطاره للحضور للمدرسة وتوليت عقابه بالجلد ثلاثين جلدة، وبذلك نجا من مصير مجهول كان بانتظاره. ثم دارت الأيام، وصارت للناظر/ كامل محجوب بنت تدرس بكلية التربية بجامعة جوبا ـ بمدينة جوبا في جنوب السودان الحالي - وطالت أحداث تمرد "الحركة الشعبية" حينذاك بقيادة د. جون قرنق مدينة جوبا وأهلها بما فيهم طلاب جامعة جوبا وحينها كان الشهيد/ كمال علي مختار قائداً عسكرياً في جوبا، فتدخل وأجلى بأمان ابنة الناظر/ كامل محجوب حتى وصلت إلى أهلها سالمة. وبعد انتهاء فترة الناظر/ كامل محجوب قام بإحضار بديل له من القادة الشيوعيين واسمه/ عبد القيوم محمد سعد، ولم يكن عبد القيوم هذا معلماً ولكني علمت أنه تم ترتيب أمره بمعاونة محمد زبير بشير الذي كان رفيقهم في الحزب الشيوعي وتم إبرام الأمر بواسطة أحمد سعد الذي كان يشغل منصباً كبيراً في التعليم، وكنت قد رشحت لإدارة المدرسة أستاذ/ كودة، غير أن اللجنة
أ. عبد المنعم صالح

الأهلية للمدرسة أهملت ترشيحي واعتذرت لأستاذ/ كودة. ومن أحداث تلك الفترة أن خرج تلاميذ الصف الرابع في مظاهرة احتجاجاً على إدارة عبد القيوم محمد سعد، وقاد هذه المظاهرات من الطلاب مولانا/ عبد المنعم صالح وإمام أبو العلا (صاحب معمل إمام ساتي بدنقلا)، واجتمعت اللجنة لمناقشة أمر هذه المظاهرة واتهموني بالوقوف خلفها ولذلك قرروا استدعاء أستاذ/ كودة لتدريس مادة الرياضيات للصف الرابع وأن يقوم عبد القيوم بتدريسهم اللغة الإنجليزية وبذلك أُحرم من تدريس السنة الرابعة عقاباً، فعشت بذلك سنة صعبة في مواجهة مجموعة من الزملاء المتحالفين ضدي يجمعهم (الميز) والسكر فيه، إضافة إلى كوني متدرب (
Trand Master) وحاصل على تقدير (A) في اللغة الإنجليزية و(A) في الرياضيات ثم لا تجد فرصةً للتدريس، كل ذلك فاقم من معاناتي نفسياً، وبنهاية فترة تعاقدي مع المدرسة الأهلية اعتذرت عن مواصلة العمل وتقدمت بطلب للعمل بالمدرسة الثانوية الحكومية.