إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

الجمعة، 1 يونيو 2018

الأستاذ الراحل/ مختار محمد بشير ... نقشٌ في خاطرٍ طيِّب


تطيب اللحظات بالذكريات كما تطيب الأيام بالعشرة الفاضلة .. هكذا عشنا دهراً في مدينة "دنقلا"، ( لنْ أسلُوَ اللحظاتِ والتأثيرَ). في تلك الأيام الحرة من فاتحة عقد الثمانينات من القرن الماضي عرفت أخي وصديقي/ أسامة مختار جمعني به "شارع بيتنا"، وهو يبتلِعُنا قادمينَ أو قافلينَ من مدرسة "النميري" المتوسطة، ووثَّق علاقتي به اهتمامُنا بالشعر والأدب، فهو تأخذه عبقرية أحمد شوقي الشعرية وأنا أتحيز لحافظ إبراهيم "ربيب دنقلا" والمولود في "السرايا" بها. كما ربطني به الشجو والغناء الشرقي، فهو مأخوذ بأم كلثوم، وأنا ميالٌ يومذاك لعبد الحليم حافظ، وكلانا يبكينا محمد وردي "كفى يا قلبي أنسى الفات وعيش من تاني وحداني .. ولو حنيت لعهد الريد أجيب من وين عمر تاني)، و(حلفتك يا قلبي .. الخانك تخونو .. والفايت غرامك، أوعك يوم تصونو).. أيامٌ وسنواتٌ بَنَتْ فينا وما هدمتْ، ومشت فينا بكل جميل، سُقيا لذلك العهد.

من خلال هذه الشخصية "أسامة"، وذِكري لها عند والدي، تسربت إليَّ منه سيرةُ الأستاذ الراحل/ مختار محمد بشير، فقد كان جانباً من شخصية والدي رحمه الله تعالى يهتم بحفاوةٍ بالغةٍ بكل من زامله في خلوة جدنا الأكبر/ علي الحاج سعيد أو من حفظ القرآن بها في عهود "المشايخ" من بعده أولاده "الفكي أحمد" و"الحاج سعيد" ـ الذي حفظ الراحل القرآن على يديه ـ رحمهم الله جميعاً، ففاض والدي في ذكر الأستاذ/ مختار محمد بشير، فهو من الذين حفظوا القرآن في تلك "الخلوة"، قبل أن ينتقل إلى معهد أم درمان ومنه إلى الأزهر الشريف..
الحاج سعيد أحمد شيخ الراحل 

تقرَّبتُ من ذلك الرجل من خلال زياراتي لصديقي أسامة، فصرت له صديقاً وخليلاً بقدر ما لي مع أسامة من ودٍّ وإخاء. وجدت فيه الجسارة في أعلى معانيها.. شهد الله أني على الرغم من انخراطي في القوات المسلحة السودانية يوم ذاك غير أني كنت أجد في الجلوس إليه من الحماسة ومعاني الجسارة وحبِّ الفتوة ما لم أتلقَ منه الكثير في معسكرات الجيش، فقد كان معظِّماً للدفاع عن الأوطان والهوية والانتماء...

من ذكريات أحاديثه عندي أنَّه ذكر لي أولَ مقابلةٍ له في الأزهر الشريف لمعاينة القبول به، فقال له الشيخ: اقرأ، فقرأ من مطلع سورة "طه" بإمالةٍ كبرى، وهي رواية ورشٍ عن نافع، فاستهجنها الشيخ، غير أن الأستاذ/ مختار انتهره وصاح في وجهه مستنكراً جهله بها روايةً.. فقدُ اختُص أهل شمال السودان يومذاك بقراءة القرآن وتعليمه برواية ورشٍ عن نافع، (ثم ضاع الأمس مني ... واطوت في القلب حسرة) فأضاعت الأجيال تلك الرواية الجميلة للقرآن.

وأشجى ما كنت أسمعه منه في زياراتي المتكررة له، حديثه المعظِّم لأهل قريتي "شيخ شريف" التي احتضَنَته، وأهلِ بيتِ "عابديل"، الذي مكث فيه سنوات دراسته بالخلوة، فقد كان لشيخ الخلوة الحق في إسكان الطلاب الفائضين عن سعة المساكن المُلْحقة بالخلوة في دُورِ أهالي القرية، وهم يسعدون بذلك عن طيب نفسٍ منهم، فكان منزل الأستاذ/ مختار مع آل "عابديل"، فكنت كلَّما زرتُه سألني عن أخبارهم وأحوالهم، كما أنه ما انقطع من زيارة الخلوة وزيارة آل "عابديل"، شأن "الحيران" الذين حفظوا القرآن في "الخلاوي".
الأستاذ الراحل/ مختار محمد بشير في شبابه

ولم تكن المدارسة للعلم بعيدةً عن أحاديثه، سيما وقد كنتُ في تلك الأيام طالباً في كلية "الشريعة" في جامعة القرآن الكريم والعلوم الإسلامية بأم درمان، فقد كان يُسائلني أحياناً عن إعراب بعض الكلمات في أبيات الشعر أو بعض القواعد والأحكام الفقهية ... وأحياناً بظُرفٍ شديد عن بعض الكلمات النوبية في لهجة ورطانة "الدناقلة"، فأعرف منها وأُنكر فيشرح لي غريبها ببهجة تبدو عليه، فقد حُبب إلينا معشر "الدناقلة" خصوصاً و"النوبة" عموماً كلَفُنا واهتمامُنا بلهجتنا "الرطانة".

وما خلت أحاديثه عن ذكريات دراسته في مصر، وزملائه في مرحلة الطلب، سيما من أعمامي أمثال "محمد الحاج سعيد" الملقب بـ"فقير"، فقد تزاملا في حفظ القرآن على يد والده، ثم تزاملا في معهد أم درمان وفي الأزهر الشريف، كما زامل في التدريس عمي الأستاذ الراحل/ أحمد عمر محمد بشير... وكانت لسيرة أحداث مصر في حقبة الأربعينات والخمسينات من العقد المنصرم شجواً وألقاً في الفؤاد، وذلك أننا كنا في السودان يومذاك نُكِنُّ لمصر عواطفَ في روابطَ شتى، الدين والتاريخ والعِرق والجوار.... أرى شيئاً من تلك العواطف قد تغير كثيراً..
الوالد (شيخ أبيض )مع العم الأستاذ
الراحل/ محمد الحاج سعيد

ومما طاب لي من هذه الذكرى هو تدلِّي الكبار في التعامل مع الصغار.. فقد كنت أشعر بالنِّدية ـ مع جزيل الاحترام ووافره ـ وهو يُحادِثُني ويُمازحُني فيزرع بذلك فيَّ ثقةً في النفس ما كنت لأجدها في المعاهد أو ميادين التدريب، ومثار عجبي أني كنتُ أحدث سناً من أخي أسامة ابنه الأكبر، لكنه كان يعاملني معاملة النديد، رحمه الله تعالى...

إن هذه السيرة المقتضبة لهذا العلم الذي نثرت السنوات عهودها بين دنقلا ومصر وأم درمان وقرىً (بين ذلك كثيرا)، ليمثِّل جيلاً أودى الزمان به في الآخِرين، فلا نكاد نجد لهم مثيلاً أو متمثِّلاً تلك السيرة بحق مِن بعدهم.. صبَّ الله عليهم شآبيب رحمتهم، ورفع درجتهم في المهديين، واخلفهم في عقبهم في الغابرين..

آمين آمين
                        دنقلا: منتصف رمضان 1439ه – الأول من يونيو 2018م

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق