إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

الاثنين، 14 مارس 2016

الترابي، رحى الأفكار... لم يزل يبذر في الأرض

وقد رأيتُه يوماً في العهد الذي تحوّل قلبي عنه لمّا ضلّت السُبل بالإنقاذ ودبّ الوهن، فدارَ اللومُ عندي حوله، لكنّه مَلَكني بالإرادة التي بَدَت خلف التردِّي صامدةً، ومن بعد الوهن مجاهدةً، وهو يتحدّى بمستقبل الإسلام واثقاً بالله، يتوعّد بالتجديد، فَبَدَاْ عندي كالرَّحى للأفكار المبتَكرة. 
ولا شك في أن الشيخ حسن عبد الله الترابي من الذين يَصدُق عليهم قولُ ابنِ رشيق في الشاعر أبي الطيب المتنبئ أنه:( ملأ الدنيا وشَغَل الناس)، غير أن أبا الطيب المتنبئ لم يؤكّد ما قيل فيه على أقل تقديرٍ في عصرنا الحالي، القرن الواحد والعشرين الذي استباحه شِعرُ "التفعيلة"، وسخّف مزاجه اللغة الدارجة التي دحرت الفصحى إلا قليلا....
          لكن الشيخ حسن عبد الله الترابي الذي عرفه السودانيون واشتهر بينهم في أحداث الثورة الشعبية السودانية الكبرى في أكتوبر من العام 1964م ما زال بعدها يتجدد في الذهنية السودانية بشقيها، الذي شايعه والذي شاققه منها. فالتي شايعته أبدعت فيما خطّه لها من اتجاه في التفكير والتنظير الذي بدأه هو لها، فأتوْا بما لم يكن في حسبان الشيخ حتى، فليس هو نبيٌ ولا مُكلّمٌ حتى يعلم الغيب، ولكنه الرجل المتوكل على الله حق توكله...
          لم يُعرف عن الشيخ الترابي ظهوراً في ساحات القتال التي نشبت بعد ثورة الإنقاذ في السودان، ولكن لا يُماري أحدٌ في أنه مفجّر تلك الإرادات العارمة، فما زلتُ أذكرُ خطابه قُبيل الإنقاذ في "ثورة المصاحف" قبيل مجيئ الإنقاذ، وقد وقف ثائراً بعد أن قدّمه للحديث الثائرُ ابنُ عمر محمد أحمد، فخاطب الناس زئيراً وهو يقول:(أحرِّضُكم على الجهادِ والثورة والتحرير). فتلقفها المجاهدون أول الإنقاذ فكانوا أسودَ الشّرى، ومصابح الظلام المُدْلَهم.
          أما الذين شاققوه وأعلنوا عداوَتَهم، من اليساريين والإسلاميين، فما استطاعوا إلا مجاراته في طريقته، والتأثر بنهجه، ومن عجائب ذلك ما حفظته ذاكرتي من مواقف الحزب الشيوعي السوداني في حقبة ما بعد حكم "ثورة مايو" للسودان، أنه أصدر كتيباً يوضح فيه رأيه في قانون الزكاة، في مجاراة واضحة لنهج الشيخ الترابي في حزب الجبهة الإسلامية القومية التي ظهرت قوية في ذلك المعترك السياسي، والذي دمغته بالآراء والمساجلات الفقهية الشرعية، فلم يجد الحزب الشيوعي السوداني بُدّاً من مجارات ذلك التيار، في حادثة نادرة أن يقوم حزبٌ عقائدي يساري بالإفتاء الشرعي في السياسة، إقراراً بمناقشة القضايا العامة وتناولها من منظور فقهي، وهو النهج الذي عابوه على الشيخ الترابي .
          أما أعداؤه من الإسلاميين الذين أفرزتهم المفاصلة بين الشيخ الترابي ورئيس الجمهورية عمر البشير، فإنهم وبرغم المعاملة غير الكريمة التي نهجوها في عدائهم للشيخ ومن شايعوه، إلا أنهم ما انفكوا عن نهجه بل واتّباعه كُرهاً، ويشهد على ذلك مُضيُهم قُدُماً في ذات الفعل، بعد أن وقّع الترابي مذكرة التفاهم مع قائد المتمردين يومها على التنسيق السلمي في المواقف العامة، أو شيئاً فضفاضاً نحوه، فسجنته الحكومة بدعوى الاتفاق مع الخارجين على الدولة، لكنها سارت في ذات الاتجاه حتى وقّعت اتفاقيةً أشمل في مدينة نيفاشا بيوغندا، أدت في آخر عهدها إلى انفصال جنوب السودان.
          يجد الناس أنفسهم تبعاً للشيخ الراحل لموضوعية مواقفه، وعملية آرائه، وجرأة أفعاله، فهو يأسر الذي ينظر للأمور بحكمة، ويبتغي الخير بالفعل، لا الضرر والنِكال... ويأتي في هذا النهج "الحوار الوطني" الجاري في البلاد اليوم والذي أوضح الشيخ/ أحمد عبد الرحمن محمد القيادي بحزب المؤتمر الوطني أنه من مبادراته التي أحب أن تكون ختاماً لحياة مليئة بالجرأة، ما كانت لتسعده إلا لو أنتجت إجماعاً لأهل السودان...
          وليس لهذا وحسب هو "رحى الأفكار" بل هذا جانب يظهره قدوةً آسرة في التفكير والمبادرات... رحمه الله تعالى رحمة واسعة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق