إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

الثلاثاء، 25 أكتوبر 2016

محاضرات في الفكر الإسلامي
المحاضرة الأولى
مقدمة في الفكر الإسلامي
مفهوم الفكر الإسلامي:
        الإسلام دين الله الخاتم للرسالات تميز عن الرسالات السابقة له بمميزات أهمها منهجية التفكير والاجتهاد، فقد أبرز القرآن الكريم عدداً وافراً من المصطلحات والكلمات الدائرة في هذا المعنى وكررها مرات مكثفة للدلالة على مقصوديتها. وفطن المسلمون لهذا المقصد الإلهي واستجابوا له بما بات يُعرف بـ"الفكر الإسلامي" عند المسلمين، واعترف به غيرهم ودرسوه نقداً واستفادةً.
أسس الفكر الإسلامي:
        يقوم الفكر عند المسلمين على أسس يمكن ملاحظتها بالتقصي لأبواب العلوم الإسلامية المختلفة وطرق تعامل العلماء مع الحقائق منذ عهد النبي r مروراً بحقب التاريخ الإسلامي المختلفة. كما تستفاد تلك الأسس مباشرة من نصوص التشريع وأقوال الأئمة المجتهدين.
        من أبرز تلك الأسس ما يمكن إجماله في الآتي:
1.     التوحيد: وهو منهج يميز الفكر الإسلامي خاصة. وخلاصة مفهومه ومعناه أن الحق والخلق أو الخلق والأمر مصدرهم أو مآلهم واحد وهو الله U ) أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ([i]. ومن هذا الأساس انطلقت العقيدة الإسلامية التي هي أس التشريع والنظم في الإسلام.
2.     كرامة الإنسان: لم تخلُ شريعة في دين الله I، ـ ودينه واحد وهو الإسلام، لقوله تعالى:) إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ([ii] ـ فلم تخلُ شريعة من الأمر بحفظ كرامة الإنسان حياً وميتاً، مؤمناً وكافراً، ومن ذلك أخذ علماء الإسلام ذلك مبعثاً في التفكير والاجتهاد.
3.       العقل مناط التكليف: خاطب الله U في الإنسان عقله وميزه به عن سائر خلقه، وجعل العقل مناط التكليف، وأمره بالاجتهاد والتدبر والتعقل والعلم والتذكر والفهم، وجاءت بذلك آيات كثيرة، منها:) كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ([iii] وقال:)قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلاَدَكُم مِّنْ إمْلاَقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلاَ تَقْرَبُواْ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ([iv]، وقال:)أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراً([v]، وقال:)الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاء بِنَاء وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَّكُمْ فَلاَ تَجْعَلُواْ لِلّهِ أَندَاداً وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ([vi] .
4.     اعتبار الحياة الدنيا للآخرة: لم يخلق الله U الدنيا هملاً أو بغير قصد، ولكنها مطيةٌ للآخرة، فقال U: )وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ( [vii].
مقاصد الفكر الإسلامي:
        يبتغي المجتهدون من العلماء والأئمة الفقهاء والمفكرين المسلمين تحقيق العبودية لله U، وهي عند المسلمين مرتبة عليا لا تماثلها للمخلوقين مرتبة، ولا تتحقق العبودية إلا بمعاني يجتهد علماء المسلمين في بيانها وبيان طرق تحققها في الحياة.
        ويُعبر عن ذلك بمصطلحات جامعة أهمها المصلحة والمفسدة، أو صلاح العباد في الدنيا والآخرة. وقد أشار الإمام العز بن عبد السلام إلى عمل المجتهدين في ذلك في كتابه "قواعد الأحكام في مصالح الأنام"، فقال:( الاعتماد في جلب معظم مصالح الدارين ودرء مفاسدهما على ما يظهر في الظنون.
مصالح إذا فاتت فسد أمرهما، ومفاسد إذا تحققت هلك أهلهما. وتحصيل معظم هذه المصالح بتعاطي أسبابها مقطوعٌ به، فإن عُمَّال الآخرة لا يقطعون بحسن الخاتمة، وإنما يعملون بناء على حسن الظنون، وهم مع ذلك يخافون ألا يُقبل منهم ما يعملون، وقد جاء التنزيل بذلك في قوله: )وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ([viii]. فكذلك أهل الدنيا إنما يتصرفون بناءً على حسن الظنون، وإنما اعتُمِد عليها لأن الغالبَ صدقُها عند قيام أسبابها)[ix] .  
وتتجلى أهم ما يحقق العبودية لله I في الآتي:
1.     طاعة الله U فيما أمر به واجتناب ما نهى عنه، وذلك في التصورات، وهي العقيدة بإثبات ما أثبته في حقه والرسل وعالم الغيب. وكذلك طاعته في الأوامر والنواهي، وهو ما يُصطلح على تسميته بـ"الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر".
2.     إقامة دولة المسلمين التي تعصم أمرهم)وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ( [x]، وتحمي أعراضهم، وتحفظ دينهم وتُآلف بين شرائح مجتمعهم )إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ( [xi].
3.     الموالاة في الله، فإن "أوثق عُرى الإيمان الحبُ في الله والبغض في الله"[xii]. وهذا المعنى يشترك فيه الفرد المسلم والدولة المسلمة على السواء في إقامة علاقاتهم الثنائية والخارجية.
تاريخ الفكر الإسلامي:
        لا شك أن بداية الفكر الإسلامي كانت منذ نزول الوحي على النبي r بعد البعثة النبوية، وكانت البداية بالاستجابة لذلك الوحي وفهمه وتنزيله على واقع الناس، ومن الطبعي أن يكون النبي r هو حامل لواء ذلك الفقه والفكر ) وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ( [xiii]. فهو الذي بدأ تعليم الناس أحكام ذلك الوحي، كما علمهم قواعد الاجتهاد والفقه، ومقاصد التشريع ليستعينوا بذلك في حركتهم الفكرية المستقبلة من بعده.
        بدأ اجتهاد أئمة المسلمين في الأحكام في أواخر عهد النبي r، وذلك تدرج طبعي، فقد أخذ النبي r في مِران أصحابه على الاجتهاد طيلة حياته عبر ملاحظة تديُّنه r وانفعاله بالوحي، وهو ما عُرف بـ"السُنة النبوية".
ومن خلال ملاحظتهم لظروف الوحي ومناسباته التي تنزَّل فيها. وقد صُنِّفت في ذلك من بعدُ علوماً مستقلة عُرفت بـ"علوم القرآن".
ومن خلال دراستهم لواقعهم وفهم التجارب الإنسانية في عصرهم ومن قبلهم، وذلك ما عُرف بـ "سنة الله" )سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً([xiv].
ثم تطوت حركة الفكر الإسلامي اعتماداً على هذا المنهج في التفكير والاجتهاد فأُسست العلوم المختلفة ودُوِّنت في بداية القرن الثالث الهجري، وابتُكرت النُظم المختلفة لإدارة الدولة والمجتمع المسلم، فكان "النظام السياسي في الإسلام" الذي قام على فقهٍ عُرف بـ"السياسة الشرعية". وكان "النظام الاجتماعي في الإسلام" الذي قام على أبواب مختلفة في الفقه الإسلامي. و"النظام القضائي"، وغيرها من النُظم.
تيارات الفكر الإسلامي:
        نتعرف فيما يلي ببعض مناهج الإسلاميين الفكرية، والتي كان لها ومازال إفرازاً فكرياً في حياة المسلمين.
السلفية:
        وهو تيار يعتمد الاتباع في مجال الفقه، فلا يميل إلى الجديد في العبادات بل يحافظ على التراث الإسلامي في هذا الجانب، هذا مع اعتمادهم مصادر للفقه تتعامل مع مستجدات الحياة من الظروف وغيرها، مثل مصدري التشريع "القياس" و"الاستحسان". فبالقياس يستنبط الفقهاء أحكام الوقائع الجديدة في معاملات الناس فيُنتجوا لها أحكاماً فقهية تناسبها. و"الاستحسان" فرع للقياس، ومفهومه أن يعدل الفقيه عمّا قد يُؤديه إليه اتباعه لقواعد القياس في مسألة إلى حكم آخر له مسوغاته، ولذلك فالاستحسان يقوم على قواعد غير منضبطة انضباط قواعد القياس، أو بمعنى أدق فهي تختلف من واقعة إلى أخرى.
        ويرفض هذا التيار أي فكر جديد في جانب العقيدة إلا ما جاء عبر سلف هذه الأمة، فيقومون إزاءه بالتأييد له بالنصوص الدالة عليه أو شرحه أو تبريره، وكان بعضهم أحياناً يرفض الخوض في باب العقيدة دراسةً، وذلك انسجاماً مع نصوص نبوية يُفهم من ظاهرها ذلك. قال ابن حجر العسقلاني مُوْضِحاً وجهة نظر هذا التيار:( قال أبو المظفر بن السمعاني[xv]: تعقَّب بعضُ أهل "الكلام" قولَ من قال إن السلف من الصحابة والتابعين لم يعتنوا بإيراد دلائل العقل في التوحيد، بأنهم لم يشتغلوا بالتعريفات في أحكام الحوادث. وقد قبل الفقهاء ذلك واستحسنوه، فدونوه في كتبهم، فكذلك "علم الكلام". ويمتاز علم الكلام بأنه يتضمن الرد على الملحدين وأهل الأهواء، وبه ينعقد الشبهه عن أهل الزيغ، ويثبت اليقين لأهل الحق، وقد علم الكل أن الكتاب لم تُعلم حقيتُه والنبي لم يثبت صدقُه الا بأدلة العقل. وأجاب: أما أولاً فإن الشارع والسلف الصالح نُهوا عن الابتداع وأُمروا بالاتباع، وصحّ عن السلف أنهم نُهوا عن "علم الكلام" وعدوه ذريعةً للشك والارتياب. وأما الفروع فلم يثبت عن أحد منهم النهي عنها إلا من ترك النص الصحيح وقدَّم عليه القياس. وأما من اتبع النص وقاس عليه فلا يُحفظ عن أحدٍ من أئمة السلف إنكار ذلك، لأن الحوادث في المعاملات لا تنقضي، وبالناس حاجةٌ إلى معرفة الحكم، فمن ثُمّ تواردوا على استحباب الاشتغال بذلك بخلاف "علم الكلام". وأما ثانياً: فإن الدين كَمُل لقوله تعالى )اليومَ أَكْمَلْتُ لكم دينَكُمْ( فإذا كان أكمله وأتمَّه، وتلقَّاه الصحابة عن النبي r، واعتقده من تلقى عنهم، واطمأنت به نفوسهم، فأيُّ حاجة بهم إلى تحكيم العقول؟ والرجوع إلى قضاياها وجعلها أصلاً؟ والنصوص الصحيحة الصريحة تُعرض عليها فتارة يُعمَل بمضمونها، وتارةً تُحرَّف عن مواضعها لتوافق العقول. وإذا كان الدين قد كَمُل فلا تكون الزيادة فيه إلا نقصاناً في المعنى)[xvi]. وقال الشيخ سفر الحوالي:( وقد نص الإمام أحمد وابن المديني على أن من خاض في شيء من علم الكلام لا يعتبر من أهل السنة وإن أصاب بكلامه السنة حتى يدع الجدل ويسلم للنصوص، فلم يشترطوا موافقة السنة فحسب بل التلقي والاستمداد منها.فمن تلقى من السنة فهو من أهلها وإن أخطأ، ومن تلقى من غيرها فقد أخطأ وإن وافقها في النتيجة)[xvii].
        لذلك المنهج أطلق على هذا التيار أسماء أهمها "أهل السُنَّة والجماعة" و"أهل الحديث"
الخوارج
        وهم أشبه التيارات بالسلفية، غير أنهم تميزوا في أمور أهمها الفقه السياسي، فهم أول من اجتهد فخرج على الإمام بالسيف فقهاً وذلك في خروجهم على علي بن أبي طالب t، فالمعروف أن بعض المسلمين خرجوا على عثمان t وقتلوه، ولكن فعلهم ذلك لم يكن منهجاً ولم يُقره المسلمون يوم ذاك ولم يتبعوه. أما خروج الخوارج فكان عن فقه، وصار من أمهات آرائهم.
        ومما يميز منهجهم كذلك أخذهم بظواهر النصوص حتى أدَّاهم ذلك للاضطراب في آرائهم.
        قال ابن تيمية:( أول البدع ظهوراً فى الاسلام وأظهرها ذماً فى السُنَّة والآثار بدعةُ الحَرُوْرِيَّة المارقة، فإنّ أولّهم قال للنبى فى وجهه:( اعدِلْ يا محمد، فإنك لم تعدل) وأمر النبى بقتلهم وقتالهم، وقاتلهم أصحاب النبى r مع أمير المؤمنين علي بن أبي طالب.
والأحاديث عن النبى مستفيضة بوصفهم وذمِّهم والأمر بقتالهم. قال أحمد بن حنبل:( صح الحديث في الخوارج من عشرة أوجه، قال النبى r:" يحقر أحدكم صلاتَه مع صلاتِهم، وصيامَه مع صيامِهم، وقراءَتَه مع قراءتهم، يقرأون القرآن لا يُجاوِزُ حناجرهم، يمرُقون من الاسلام كما يمرق السَّهم من الرَّمِيَّة، أينما لقيتموهم فاقتلوهم، فإن فى قتلهم أجراً عند الله لمن قتلهم يوم القيامة").
ولهم خاصتان مشهورتان فارقوا بهما جماعة المسلمين وأئمتهم، أحدهما خروجهم عن السُنَّة، وجعلهم ما ليس بسيئةٍ سيئةً، أو ما ليس بحسنةٍ حسنةً، وهذا هو الذي أظهروه فى وجه النبى حيث قال له ذو الخويصرة التميمي:( اعدل فإنك لم تعدل)، حتى قال له النبى:( ويلك، ومن يعدل إذا لم أعدل؟ لقد خبت وخسرت إن لم أعدل).
والخوارج جوَّزوا على الرسول نفسه أن يجورَ ويضلَ في سنته، ولم يوجبوا طاعته ومتابعته، وإنما صدَّقوه فيما بلغه من القرآن دون ما شرعه من السنة التى تخالف بزعمهم ظاهر القرآن.
الفرق الثانى فى الخوارج وأهل البدع أنهم يكفِّرون بالذنوب والسيئات، ويترتب على تكفيرهم بالذنوب استحلال دماء المسلمين وأموالهم، وأن دار الإسلام دار حرب ودارهم هي دار الإيمان ـ وكذلك يقول جمهور الرافضة وجمهور المعتزلة والجهمية وطائفة من الغلاة المنتسبة إلى أهل الحديث والفقه، ومتكلميهم ـ فهذا أصل البدع التى ثبت بنص سنة رسول الله وإجماع السلف أنها بدعة، وهو جعل العفو سيئة وجعل السيئة كفراً، فينبغي للمسلم أن يحذر من هذين الأصلين الخبيثين وما يتولد عنهما من بُغضِ المسلمين وذمِّهم ولَعْنِهم واستحلال دمائهم وأموالهم)[xviii].
المعتزلة:
        المعتزلة هي فِرْقة من الفِرَق الإسلامية التي تأخر ظهورها في التاريخ الإسلامي، فقد سجل التاريخ أولها في عصر التابعين حينما كان رئيس هذا التيار واسمه واصل بن عطاء[xix] تلميذاً لدى التابعي الجليل الحسن البصري.
        وهذا المذهب هو الذي بدأ منهج التفكير العقلاني والمنطقي للعقيدة الإسلامية، وقد نشأ هذا التيار في مواجهة الثقافات والملل والنحل الداخلة في الإسلام والتي فرضت كثيراً من الأسئلة شكاً أو طعناً أو تثبتاً في العقيدة، وما كانت لتشفي غليل هؤلاء طريقة السلف في العقيدة، فهم لم يصيروا مسلمين بعدُ، أو قرب عهدهم بالإسلام، ولا شك أن المعتقِد حديثاً لأي فكر يحتاج إلى إجابات قوية ومادية لكل تساؤل ينشأ لديه، فكان مذهب المعتزلة استجابةً لهذه الحاجة البشرية.
المرجئة:
        عرف المسلمون منذ عهد النبي r الارتباط بين الإيمان والعمل، وتلازمهما حتى ظهرت فرقة تسمى "المُرْجِئَةُ" حكمت بعدم التلازم بين الإيمان والعمل، وعدم صحة الحكم على إيمان المرء بحسن أو سوء عمله، بل ينبغي في الحكم على الإيمان إرجاءُ الأمر إلى يوم القيامة، فسُمَوْا لذلك بالـ"مُرْجِئَة". قال ابن القيِّم:( وقال يحيى بن سليم الطائفي: قال هشام عن الحسن:"الإيمان قولٌ وعملٌ". فقلت لهشام: فما تقول أنت؟ فقال" قولٌ وعملٌ. وقال الحُمَيْدِي: سمعتُ وَكِيْعَاً يقول: وأهلُ السُّنّةِ يقولون: "الإيمان قولٌ وعملٌ". والمرجئة يقولون: "الإيمان قولٌ". والجَهَمِيَّةُ يقولون: "الإيمانُ المعرفةُ". وصحَّ عن الحسن أنه قال:" ليس الإيمان بالتمنِّي ولا بالتحلِّي، ولكنْ ما وقر في القلب، وصدَّقه العمل. وقد جعل النبي r العمل تصديقاً في قوله حديث زنى العين: "إن الله كتب على ابن آدم حظَّه من الزنا، أدرك ذلك لا مَحَالة، فزنا العين النظرُ، وزنا اللسان المنطقُ، والنفس تتمنَّى وتشتهي، والفرج   يصدِّقُ ذلك  كلَّه أو يكذِّبَه"[xx])[xxi].
        قال المفكر د. محمد عمارة:( وجدير بالذكر أن واقعنا المعاصر ـ وإن لم تقم فيه فرقة أو مذهب يتسمى باسم "المرجئة" ـ إلا أن فكر الإرجاء لازال حياً في ثنايا العديد من مذاهب الإسلاميين المعاصرين. وعلى الأخص في المذهب الأشعري، فالأشعرية ـ كما يقول ابن حزم يذهبون في هذا الموضوع مذهب الجهمية أتباع الجهم بن صفوان)[xxii]، وأوضح ذلك سابقاً وقال:( فبعض المرجئة أمثال الجهم بن صفوان وفرقته يرون أن الإيمان هو المعرفة بالله ورسله وما جاء من عنده، وعقد القلب على هذه المعرفة، ولا يضر هذا الإيمان ما يعلن صاحبه، حتى لو أعلن الكفر وعبَدَ الأوثان)[xxiii].
إلا أن هذا المنهج قد يُسعف الحركات الإسلامية المعاصرة التي تجد نفسها مجبورة على قبول أوضاع اجتماعية أو سياسية لا تتوافق مع الشرع، فتقبل بها ريثما تُوجد أرضيةً للتغيير نحو ما يتوافق مع الشرع، وفي تركيا اليوم تترأس البلاد حركة إسلامية في محيط "علماني" يقوم على دعوى "الفصل بين الدين والدولة"، وهي فكرة تناقض الإسلام.
الأشعرية:
        وهم أصحاب أبي الحسن علي بن إسماعيل بن أبي بشر الأشعري. من نسل أبي موسى الأشعري صاحب رسول الله r. أخذ العلم عنه خلقٌ كثير منهم أبو علي الجبائي إمام المعتزلة في عصره، وزوج أم أبي الحسن. كان أبو الحسن الأشعري عجباً في الذكاء وقوة الفهم، برع في الاعتزال ثم كرهه وتبرَّأ منه. قال الفقيه أبو بكر الصيرفي: كانت المعتزلة قد رفعوا رؤوسهم حتى نشأ الأشعري فحجرهم في أقماع السِّمْسِم. مات سنة 324 هـ ببغداد[xxiv].     
     ومذهب "المعتزلة" وسطٌ بين "السلفية" الموغلة في الاعتماد على النصوص، والرافضة "للعقل" أن يكون له أي دور في التشريع استقلالاً عن النصوص. وبين "الفلاسفة" الذين يرفضون الشرائع إلا أن توافق العقول، بل ويقدمون العقل عليها. فمذهب المعتزلة جمع بين هذا وذاك مما أكسبهم قبولاً واسعاً بين منتسبي المذاهب الفقهية. وهم حقاً أقرب إلى السلفية منهم إلى باقي المذاهب.
                                                                                      أكتوبر 2015م



[i]         سورة الأعراف آية 54.
[ii]         سورة آل عمران، آية 19.
[iii]        سورة البقرة، آية 242.
[iv]        سورة الأنعام، آية 151.
[v]         سورة النساء، لآية 82.
[vi]        سورة البقرة، آية 22.
[vii]        سورة العنكبوت، آية 64.
[viii]       سورة المؤمنون آية 60.
[ix]        العز بن عبد السلام: قواعد الأحكام ص 3.
[x]         سورة الأنفال، آية 46.
[xi]        سورة الحجرات، آية 10.
[xii]        أبو بكر بن أبي شَيبة: مُصنَّف ابن أبي شَيبة 6/172.
[xiii]       سورة النحل، آية 44.
[xiv]       سورة الأحزاب، آية 62.
[xv]        أبو المظفر السمعاني مفتي خراسان، منصور بن محمد بن عبد الجبار. كان حنفياً ثم صار شافعياً. ولد سنة 426هـ. برع في مذهب أبي حنيفة على والده العلامة أبي منصور السمعاني. له كُتُب: منها الاصطلاح وكتاب البرهان والأمالي في الحديث. توفي سنة 489هـ.                                      (الذهبي(748هـ): سير أعلام النبلاء19/114).
[xvi]       ابن حجر العسقلاني: فتح الباري في شرح صحيح البخاري 13/352.
[xvii]       سفر بن عبد الرحمن الحوالي: منهج الأشاعرة في العقيدة ص 7.
[xviii]      ابن تيمية: كتب ورسائل وفتاوى ابن تيمية في الفقه  19 / 71.
[xix]       واصل بن عطاء المقلب بالبليغ الأفوه. ولد سنة 80هـ بالمدينة. وكان يلثغ بالراء غيناً، فلاقتداره على اللغة وتوسعه يتجنب الوقوع في لفظةٍ فيها راء. طرده الحسن عن مجلسه لمَّا قال: الفاسق لا مؤمنٌ ولا كافر. وانضم إليه عمرو بن عبيد واعتزلا حلقة الحسن فسُموا بالمعتزلة. مات سنة 131هـ. له مؤلف في التوحيد، وكتاب المنزلة بين المنزلتين.                           (الذهبي: سير أعلام النبلاء 5/ 464.).
[xx]        الإمام البخاري: صحيح البخاري 5 /2304.
[xxi]       محمد بن أبي بكر أيوب الزرعي "ابن القيم" (751هـ):حاشية ابن القيم على سنن أبي داود 12/294.
[xxii]       د. محمد عمارة: تيارات الفكر الإسلامي  ص 40.
[xxiii]      د. محمد عمارة: تيارات الفكر الإسلامي  ص 39.
[xxiv]      الإمام الذهبي(748هـ): سير أعلام النبلاء 5/464.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق