إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

الثلاثاء، 16 يوليو 2013

القانون في الثورة المصرية "يخني عجب"

خذلتُ وأنا دارسٌ للقانون في الثورة العراقية وهي تضرب أسوأ المثل في تطبيق القانون، وقد ورثت إحدى أقدم الحضارات ذات التجربة القانونية القديمة، حتى إن البعض من منكري الأديان كان يستند عليها في مماثلتها لأحكام الإسلام الجنائية مشيرين في ذلك لما وجد من آثار قضائية على "حجر رشيد" من "شريعة حامورابي". جاءني ذلك الشعور بالخذلان يوم وقف الرئيس الأسبق للعراق "صدام حسين" في محاكمته الشهيرة على أحداث قرية "الدِّجيل" محتجاً على سخافة إجراءٍ مارستْه المحكمة، وهو سماعها لشهادة شاهد من خلف الحُجُب هو نفسه الذي تقدّم بالادّعاء في ذات القضية، فاستجوبته المحكمة في المرة الثانية باعتباره شاهد اتّهام، فتهكم الرئيس "صدام حسين" على هذا الإجراء. لكن الطامة الكبرى أن رئيس المحكمة أخبره أن هذا هو القانون الذي كان سائداً في عصره، وظن القاضي بذلك أنه أفحم المتهم بهذا الردّ، وما حسب القاضي أن ملايين الناس يتابعون تلك المحاكمة أمثالي ليكونوا شهوداً على الممارسة العراقية للقانون غير آبهين بما خلّفه نظام "صدام حسين" من قوانين.
عادت بي الذاكرة يوم ذاك لأقارن بين المحاكمات التي جرت في صدر ما عُرف بـ"الديمقراطية الثالثة" في السودان وبين هذه المحاكمة التي وصفها وزير العدل الأمريكي الأسبق الذي شهد هذه المحاكمات من داخلها وسجل أسوأ الملاحظات على إفرازات ما كان يُعرف بـ" تحرير أمريكا للعراق" وأماني الديمقراطية للعراقيين. لقد كانت محاكمات "مدبري انقلاب مايو" و" ترحيل الفلاشا إلى إسرائيل" مدرسة في القانون لكل المواطنين، ما اتُخذ فيها من إجراء إلا وكان مبرَراً لكل الأطراف ولكل المتابعين، وبتجرُّد من القضاة وحيدة.
ومما أذكره من تلك الممارسات أن السيد/ عبد العزيز شدو كان مترافعاً عن أحد الأطراف فخرجت إحدى المظاهرات قاصدةً مكتبه وهتفت "مكتب شدو نحن نهدو" اعتراضاً على وقوفه إلى جانب هؤلاء المتهمين "المصوَّرين بأقبح صور المعاداة للشعب"، فما كان من السيد/ شدو إلا أن تقدم بطلب في أول جلسة قادمة طالباً إيقاف المحاكمة حتى يتقدم بطلب لنقابة المحامين مستفسراً فيه عن تكييف ما يقوم به من دفاع عن هؤلاء المتهمين، فاستجابت المحكمة وأجابت النقابة بتثمين ما يقوم به السيد/ شدو من واجب تمليه عليه المهنية الفاضلة والأمانة القانونية، فأخذت في نفسي تلك الممارسة حتى ذكرتها "حين افتُقد البدر".
واليوم تُعيد الثورة المصرية ذات الخيبات في الممارسة السياسية باسم القانون، فأول الصدمات أن يؤدى الرئيس المكلف/ عدلي منصور "اليمين القانونية" حاكماً لمصر إنابةً عن العسكريين بدلاً عن "اليمين الدستورية"، ولعمري ما علمنا أن القانون ينوب عن الدستور في بلدٍ وإلا فما الداعي للدستور أصلاً, وحقيقة الأمر أن الإعلاميين والسياسيين يستعملون التلبيس في تسويق الشرعية الجديدة للرئيس المؤقت، في الوقت الذي أحجم فيه العسكر عن إصدار مرسوم دستوري يحل محل الدستور في مداخيل الوظائف الدستورية على الأقل متواربين بذلك من استحقاق وطني يتحمله من تصدى بمثل جرأتهم لتحمل المسؤولية الوطنية في ظرف ما حسب تقديره. وإلا فإطلاق اليمين القانونية على الدستورية في وقت غاب فيه الدستور إنما هي الخجل من الظهور باللحى في مراقص المجون.
وفي ذات السياق تأتي فرية "الشرعية الثورية" كلباس قانوني للعمل العام .. أليست الثورة غضب وهياج وصياح ونزوحٌ وصراخ .. أيؤسس ذلك لوضع قانوني؟! لقد اختلف القانونيون قديماً في مسألة وهي: هل لتصرفات الغضب أحكاماً؟ وفي ذات السياق تلاطمت فتاوى المسلمين في: طلاق الغضبان، وقتل الغضبان، وغيرها. وأكثرت السنة النبوية من التحذير من الغضب لكونه مدخل شرور كثيرة. أبعد كل هذا تصير للغضب شرعية؟!!!! إنما الشرعية للاتفاق الذي هو العقد الاجتماعي وليس الشارع فالشارع يضم فئات هي أهله وهي غير معنية بالأمور على المستوى الذي نعني...
من المتوقع أن يثير أحد هذا التساؤل: ألم تأتِ "الثورية" بالحكم البائد فكيف لا تنزع عنه الشرعية؟ لكن المستذكر للشأن المصري يذكر أن الشرعية التي أتت بالحكم البائد هي الانتخابات، والذي أتى بالانتخابات تراضي الشعب المصري على تولي القوات المسلحة المصرية للعمل العام لفترة انتقالية والذي أتى بالقوات المسلحة هو تنازل الرئيس الأسبق "محمد السيد حسني مبارك" لها في خطابه المشهور الذي عهد فيه بالحكم للمؤسسة العسكرية. إذن فما كانت الثورية مؤسسة لشرعية أي وضع دستوري في مصر الثورة.
هذا مع العلم بأن الفكر الإسلامي لا يمنع هكذا اسلوب في الحكم أن تتم به "بيعة" لحاكم لكن هذا الجواز ليس هو الأصل الذي يقرره الإسلام لعباد الله، والأصل هو قوله تعالى: (وأمرهم شورى بينهم) وهذا الجواز مشترط ضمناً بألا يتأتى بـ"خلابة" وهي السعي بتدبير المكائد في الاتفاقات بغرض تفشيلها كما جرى في الممارسة المصرية.
هذه الممارسة المصرية الراهنة بعد ثورة 30 يونيو تذكرني بهزلية الفنان المصري/ عادل إمام الذي كان يؤدي دوراً ينتحل فيه شخصية طاهٍ في بعض أفلامه فصنع طعاماً قد استنكره المتذوقون له فأخبرهم أنها وصفة لبعض المجتمعات المتحضرة، فسألوه عن اسمها فقال: إنها "يخني عجب".
الله المسعان وعليه التكلان ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق